حين يتكلّم العرق وتصمت الأرباح: لماذا يكره البعض صوت اليسار؟
إسلام حافظ
2025 / 12 / 9 - 22:07
في هذا البلد، وفي بلدان كثيرة تشبهه في الفقر والقهر وتكدّس العرق فوق جبين الناس، الهجوم على اليسار بقى عادة روتينية. مش لأن اليسار مروّع أو مخيف، لكن لأنه ببساطة بيكشف الحقيقة العارية… الحقيقة اللي ناس كتير مش عايزة تبصّ لها، ولا مستعدة تتعامل مع مرارتها.
الحقيقة إن اللي بيخلق القيمة هو اللي بيشتغل، واللي بيشيل الدنيا على ظهره، واللي بيرجع بيته متهالك بعد يوم بيقطع الروح. مش اللي قاعد فوق يعدّ الأرباح، ولا اللي ورث سلطة أو منصب أو شركة أو نفوذ.
لكن مجتمع كامل اتبنى على إن الشغل يكون عذاب، والعدل يكون حلم، والعرق يتحوّل لثروة… بس عند غير صاحبه.
اللي بيهاجم اليسار غالبًا مش مضايق من “الفكر” قد ما هو مضايق من المرآة؛ المرآة اللي بتفضحه. اليسار مش خطاب فلسفي في فراغ، ده تاريخ ناس اتبهدلت واتظلمت واتسحبت قيمتها، من أيام العمال اللي أبناؤك كنت تشوفهم طالعين من الورشة بوشّ مليان جير وبقع دهان، لحد عمّال اليوم اللي لسه فاكرين إن الفتات قدر، وإن حياة الكفاف طبيعية، وإن صاحب الشغل “بيترزّق” برضه.
اليسار في جوهره صوت.
صوت اللي اتحشروا في زاوية، واتنسوا على هامش المدينة، واتحولوا لأجراء يعيشوا على أطراف الرغيف.
صوت بيقول: كرامة الإنسان مش رفاهية.
إن رغيف العيش مش منّة.
وإن تعب أبونا—اللي كان بيمسح وشه من المية قبل ما يدخل البيت عشان ما يخلّيناش نشوف اتعابه—مش حق لحد غيره.
ليه بيتضايقوا؟ لأن اليسار بيعرّي اللعبة.
بيفكّك الوهم اللي اتباع لنا طول السنين: إن “الطبيعي” إنك تتعب… وغيره يستفيد.
إنك تكبر في شغل بلا ضمان، وتشيخ بدون معاش محترم، وتمرض بلا تأمين، وتعافر لوحدك لأن المنظومة مصممة إنك تفضل تحت.
وبيكشف إن عدم المساواة مش قدر… دي سياسة.
والمسحوق مش ضعيف… ده مُستغَل.
والفقير مش غبي… ده مخنوق.
في نظر اللي فوق، اليسار مزعج لأنه بيسأل الأسئلة اللي محدش حابب يسمعها:
ليه الثروة تتركز فوق، والشقاء يتوزع تحت؟
ليه صوت العامل بيتحسب عليه، وصوت صاحب رأس المال بيتشال فوق الراس؟
ليه القوانين دايمًا تنزل على راس اللي بيشتغل، مش اللي بيلم المكسب؟
اليسار الحقيقي مش شعار ولا موضة.
هو ده الحلم اللي اتشكل في المصانع، واتولد في الورش، وكتب أول سطره عرق الصنايعية اللي رجعوا بيوتهم يوم ورا يوم وهم شايلين فوق ضهرهم بلد كاملة مش شايفة وجودهم.
هو الفكرة اللي تمشي في الشارع كأنها ريح ساخنة، تهزّ الغفلة من وسط الناس، وتنفض عنهم غبار السنين وتقول:
إنسانيتك مش قابلة للتقسيط.
وكرامتك مش ورقة تفاوض.
وتعبك مش مادة خام في مصنع غيرك.
اليسار مش دعوة للثورة بقدر ما هو رغبة بسيطة وواضحة:
إن اللي يتعب ياخد.
وإن اللي يبني يعيش.
وإن اللي يشيل البلد على كتافه يكون أول مَن يتمتع بخيرها، مش آخر مَن يذوقه.
واللي مضايق من ده… يتضايق.
لأن الحقّ بطبيعته يخدش اللي اتعود يعيش على حساب غيره.
ولأن الحقيقة مهما اتمنعت، بتفضل واقفة صلبة زي صخرة في وشّ الطوفان.
ولأن اليسار، بكل بساطته وعمقه، هو الاعتراف بأن الإنسان مش ظلّ يمشي على أطراف الحياة… ده صاحبها.
وده بالضبط اللي بيخوفهم.