أزمة النظام العالمي!


ادم عربي
2025 / 12 / 1 - 19:27     

بقلم : د . ادم عربي

من المتوقَّع أنْ يواجه ما يقرب من ثلاثة مليارات إنسان حالة من الجوع ونقص الغذاء، وما يرافق ذلك من آثار اجتماعية وسياسية خطيرة. فالريح الاقتصادية تظل دائماً القوة الاجتماعية و التاريخية الأشد تأثيراً؛ لأنها غالباً ما تُفضي إلى نتائج غير متوقعة، فيُنظر إليها كما لو كانت يد القضاء و القدَر. وكثيرٌ مما نعدّه اليوم صروحاً راسخة في نظمنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية، يمكن أنْ تذروه هذه الريح الاقتصادية العاتية في لحظة، كأنَّه لم يكن إلّا بناءً من ورق.

يعلّمنا التاريخ درساَ بالغ الأهمية، وهو أنَّ النظام الاقتصادي والاجتماعي الخالص ، الذي يسعى أصحابه إلى تصفيته من أي عنصر يناقضه بصورة تامة، لا يختلف في جوهره عن العدم المحض . فمثال انهيار الاتحاد السوفييتي كثيراً ما جرى تفسيره على أنه نتيجة طبيعية لتجريد نظامه الاقتصادي والاجتماعي من القوى التي تمتلك السيادة شبه المطلقة في النظام الرأسمالي، كما لو أنَّ شيئاً من الرأسمالية كان قادراً على مدّه بعوامل الحياة والاستمرار والنمو.

واليوم، بعد أنْ لم يبقَ في الساحة العالمية سوى نظام واحد هو النظام الرأسمالي، بدأ هذا النظام يتخلّى عن الملابس التي اضطر إلى ارتدائها خلال صراعه مع ما كان يُسمّى بالنظام الاشتراكي ، وهي ملابس يمكن، بتحفّظ شديد، وصفها بأنها اشتراكية. ونتيجة لذلك، فقدت الرأسمالية كثيراً من القوى التي كانت تمنحها التوازن وتخفّف عنها عبء وزنها الداخلي، أي تلك التي كانت تحول دون انهيارها تحت وطأة تناقضاتها الخاصة وثقل وزنها .

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بات من العسير أنْ تقدّم دفاعاً مقنعاً عن ماركس؛ فكيف يمكن الحديث عن نظام اشتراكي (أو شيوعي) سيخلف النظام الرأسمالي حتماً، وفق القوانين الاقتصادية الموضوعية الكامنة في الرأسمالية ذاتها، إذا كان هذا البديل المفترض لا وجود له اليوم على أرض الواقع؟

غير أنَّ الإنصاف للحقيقة وليس لماركس يقتضي أنْ نوضح أنَّ ماركس لم يتحدّث عن ضرورة حتمية لانتقال الرأسمالية إلى الاشتراكية إلّا باعتبار هذا الانتقال واحداً من خيارين تاريخيين ممكنين. فقد قال بوضوح: "إمّا أنْ تحلّ الاشتراكية محلّ الرأسمالية، وإمّا أنْ تعيد الرأسمالية العالم والبشرية إلى الوحشية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية". ويبدو لي أنَّ الخيار الثاني، أي خيار الوحشية، أصبح اليوم أقرب إلى ما نراه ونلمسه، لا مجرد توقع أو خبر يُروى.

إنَّ الرأسمالية اليوم، بعد أنْ عولمت كل شيء بما يخدم مصالحها، فقدت ولا تزال تفقد ركنين أساسيين من أركان بقائها كنظام اقتصادي اجتماعي يحمل قدراً من الأنسنة يمنعه من الانزلاق إلى وحشية شبه خالصة . وهذان الركنان هما: الدولة بوصفها الأداة التي تَحُول دون تعرّض الحاجات الأساسية للمواطنين لمخاطر جشع الرأسماليين الأفراد، وتضمن أنْ يبقى "الغذاء الرخيص" حقاً عاماً من حقوق الإنسان؛ والسوق الحرّة، التي غدت اليوم أشبه بظلّ فقد صاحبه، إذْ لم يعد وجودها في الاقتصاد الرأسمالي المعولم إلّا بقايا أثر تاريخي، تعود إلى ماضي هذا النظام أكثر مما تنتمي إلى حاضره أو مستقبله.

كنّا نقول في السابق إنَّ الدولة في الولايات المتحدة تمثّل طبقة الرأسماليين التي نجحت في جعل الشعب تابعاً لها وامتداداً لمصالحها. أمّا اليوم، فلم تعد الدولة تمثّل سوى شريحة صغيرة، بلْ شديدة الضآلة، من تلك الطبقة نفسها. وهذه الشريحة الآخذة في الانكماش لا تحركها إلّا مصالح ودوافع تجعل سياساتها وبرامجها وخططها وسلوكها متنافرة مع العقل والمنطق والحكمة، بلْ ومع تاريخها الطبقي وقيمه ومبادئه وشعاراته.

هذا الجزء الضئيل من الرأسماليين، وبفعل العولمة، جَرَّد دُوَلَنا من دورها السابق بوصفها ممثّلة للمصالح الطبقية العامة للرأسماليين داخل مجتمعاتها. فأصبحت دولنا تعيش حالة انفصال متسارع ومتزايد، ليس فقط عن شعوبها، بلْ حتى عن الطبقات الرأسمالية المحلية ذاتها. وهي الآن، في جوهرها، تعمل ممثّلةً للحكومة العالمية أي حكومة الولايات المتحدة التي لا تخدم إلّا تلك الفئة الصغيرة المتقلّصة من الرأسماليين، والتي دفعتها مصالحها إلى تبنّي أوهام "العهد القديم" كأساس لإيديولوجيتها الجديدة.

لم يعدْ شكسبير يمثل أيقونة عصرنا، بلْ أصبح شايلوك هو الرمز الفعلي، بكينونته التي تجمع بين البُعد الاقتصادي والأخلاقي والفكري، حتى بدا وكأن الإله ويهوه قد اندمجا فيه ليشكّلا كياناً موحداً. هذا النموذج هو المسيطر على مجريات العالم اليوم، ويعبّر عن الجوهر الحقيقي لهويتنا المعاصرة.