الخندق الإنساني: رحلة سبعة عقود نحو معنى الإنسان
عاطف زيد الكيلاني
2025 / 12 / 1 - 04:49
= = حين يصبح العمر حكمةً تتكلم
ليس الوصول إلى الخامسة والسبعين مجرد رقم، بل هو حصيلة رحلة طويلة، مليئة بالوعي، بالتجربة، وبالتحولات الوجودية العميقة.
رحلتي لم تكن رحلة السياسة وحدها، ولا رحلة الفكر وحده؛ كانت قبل كل شيء رحلة إلى الإنسان في داخلي.
وعندما أقول إنني لم أعد أحمل هوية سوى "إنسان"، فذلك ليس نتيجة طيشٍ أو رفضٍ للانتماء…
بل نتيجة وعي نضج ببطء، ونضج بقول الحقيقة: أن الإنسان أكبر من كل هوياته الأخرى.
= = الانتماء اليساري… الباب الذي قادني للإنسانية
دخلتُ إلى الفكر اليساري، وبالذات الماركسية–اللينينية، شابًا يبحث عن العدالة والكرامة.
كنت أظن أن الانتماء السياسي هو نهاية الطريق.
لكنني اكتشفت مع الزمن أنه كان البداية فقط.
“الفكر اليساري لم يحررني من الانتماء… بل حرر الإنسان داخلي.”
هذا الفكر أعطاني الأدوات التي أرى بها الإنسان: لا بصفته عضوًا في طبقة، ولا تابعًا لجنس أو قومية، بل كائنًا كاملًا يستحق حياة كريمة، مساواة، وعدلًا.
وهنا بدأ تشكّل أول خيط من خيوط الخندق الإنساني.
= = رحلة التحرر من الهويات الضيقة
لم أكن يومًا خارج الانتماءات الاجتماعية والثقافية.
عشت ما يعيشه الجميع: جذور، بيئة، هوية، ولاءات، وموروثات.
لكن الزمن علّمني أن الهويات أحيانًا تصنع الأسوار أكثر مما تصنع الانتماء.
كلما تقدّمتُ في العمر، ازداد وضوح الحقيقة: أن ما يجمع البشر أكثر مما يفرقهم…
وأن الإنسان لا يكون إنسانًا كاملًا إلا حين يمسك بيد الآخر دون أن يسأله من أين جاء، أو إلى أي طائفة ينتمي، أو ما اسمه الأخير.
= = الخندق الإنساني: خيار لا يشبه الخيارات السياسية
عندما أقول إنني ما زلت في الخندق اليساري… فأنا أعني الخندق الإنساني الذي وجدت فيه نفسي.
ليس لأنني عاجز عن التغيير، ولا لأنني متعصب لفكرة، بل لأنني لم أجد بديلًا أكثر إنسانية منه.
“البديل ليس موجودًا لأن البدائل تبتعد عن الإنسان… بينما اليسار الحقيقي يقف معه.”
هذا الخندق لم يعد بالنسبة لي موقعًا سياسيًا،
بل أصبح موقعًا وجوديًا.
الحياة في هذا الخندق ليست سهلة… لكنها أكثر صدقًا.
البقاء في هذا الخندق طوال هذه السنوات تطلّب:
- صبرًا على خيبات السياسة،
- صمودًا أمام موجات الانحدار الأخلاقي،
- قدرة على رؤية الإنسان وسط الضباب،
- وقوة على التمسّك بالمبادئ رغم كل ما تغيّر حولي.
لكنه منحني أيضًا شيئًا لا يملكه الكثيرون: سلامًا داخليًا نادرًا.
سلام مبني على التوافق الكامل بين فكري وحياتي، بين ما أؤمن به وما أعيشه.
الشيخوخة ليست انكسارًا… بل اكتمال
في الخامسة والسبعين، لا يختبئ الإنسان خلف الشعارات، ولا يحتاج أن يثبت شيئًا لأي أحد.
في هذا العمر، إما أن تكون صادقًا مع نفسك… أو لا تكون.
ولذلك أقول بكل بساطة:
أنا ما زلت يساريًا… لأنني ما زلت إنسانًا.
ولم أجد طريقًا يضع الإنسان في مركز الكون كما فعلت الماركسية حين فهمتها عميقًا، لا حين ردّدتها.
= = الإنسانية قيمة خالدة… ليست مرحلة سياسية.
ربما تغيّرت حركة التاريخ، وربما تغيّرت أشكال الصراع، لكن ما لم يتغيّر أبدًا هو:
- حاجة الإنسان للكرامة،
- حاجته للعدالة،
- حاجته ألا يُستغل،
- حاجته أن يكون جزءًا من مستقبلٍ أفضل.
وهذه القيم ليست مؤقتة، ولا مرتبطة بمرحلة سياسية، بل هي قيم خالدة، تمامًا مثل قيمة أن تكون إنسانًا.
= = لماذا أبقى في خندقي؟
ليس لأنني لا أرى أن العالم تغيّر…
بل لأنني أرى التغير أكثر من أي وقت مضى.
ولأنني أعلم أن العالم يحتاج إلى خنادق جديدة لا تُبنى بالحديد، بل تُبنى بالوعي، بالمحبة، وبالمسؤولية تجاه الآخر.
“الخندق الإنساني ليس خيارًا سياسيًا… بل خلاص الإنسان من ضياعه.”
وإذا كان عليّ أن أختار من أكون بعد 75 عامًا من الحياة،
فإني أقولها اليوم بوضوح:
أنا إنسان… قبل كل شيء.
ومن أجل الإنسان… أبقى في هذا الخندق.