أعظم جريمة في التاريخ . . أنتجها الإنسان / مقالة فكرية
أمين أحمد ثابت
2025 / 11 / 22 - 18:16
منذ أن خطا الإنسان أولى خطواته في طريق الحضارة، حمل معه حلما بسيطا . . أن يعيش بأمان ، أن يشبع حاجاته ، ويصنع لنفسه عالما أقل قسوة وأكثر رحمة .
غير أنّ هذا السعي المشروع انقلب على الدوام بمنتج موازي مضاد القيم عبر كلية المسار الطويل من التطور ، لينتج مقابل التطور من اجل الرخاء إلى منتج يمكن وصفه بأعظم منتج للجريمة في التاريخ - جريمة بناء منظومة حضارية متقدمة في ظاهرها ، مدمرة في جوهرها ، صنعت من الإنسان نفسه ضحية ومنجزاته سلاحا يرتد على نفسه .
1. من الحاجة إلى الجشع :
" نزعة التطوير المنحرفة "
بدأت القصة حين ربط الإنسان فكرة التطوير بكمية الإشباع، لا بجودته. فكلما توسّعت حاجاته ارتفع سقف جشعه، وكلما اكتشف أداة جديدة وجد فيها وسيلة للهيمنة أو الاستغلال. وهكذا غدت الحضارة سلسلة من التحسينات التقنية التي لم تُصمَّم لراحة الإنسان بقدر ما صُمّمت لتوسيع قدرته على السيطرة.
2. تعقيد الحياة لحمايتها :
" حين أصبحت القلعة جحرا مغلقا "
سعى الإنسان إلى تبسيط واقعه، لكنه لم يجد سوى طريق واحد: بناء حائط صلب من التعقيد.
بيروقراطية قضائية قاسية بحجّة حماية الحقوق.
وإدارة سياسية متسلطة بحجّة تنظيم المجتمع.
ومؤسسات ضخمة تقنن كل شيء، لكنها في عمقها تنهب طاقة الفرد وتخنق ملامح إنسانيته.
لقد تحوّل "تنظيم الحياة" إلى سلسلة متشابكة من التعقيدات التي تستنزف الإنسان بدل أن تحميه، وتحوّلت فكرة "صون الكرامة" إلى منظومة تراقب وتحاسب أكثر مما ترعى وتمنح.
3. منذ اصبح السلم منتجا للحروب
أمضى الإنسان قرونا يبحث عن السلام. لكن كل محاولة لتحقيقه أدت إلى نتيجة معاكسة
كل جهد لصناعة الأمان انتهى إلى تطوير أسلحة إبادة أكثر فتكا.
في سبيل حماية الأرض، حول بعض الشعوب أراضي الآخرين إلى ساحات اختبار.
وفي سبيل منع الحرب، ابتكر توازنات رعب جعلت العالم كله رهينة زر واحد.
وهكذا صار السلم مشروعا نظريا، والحرب واقعا تقنيا متطورا.
4. الغذاء والصحة
" حين يصبح العلاج أصل المرض "
من أجل تأمين الغذاء والماء وتحسين الصحة، ولد علم الصناعات الحيوية.
لكن على الضفة الأخرى ولد معه التخليق المختبري للأوبئة، وصناعة الأسلحة البيولوجية، وضخ سيل العالم في متجه تلوث لا يتوقف.
صار التقدم الصناعي السلعي شرطا لاقتصاد عالمي، لكنه في المقابل فتح باب الفوضى البيئية، والتجارب التي يمكن أن تخرج من المختبر بلا عودة.
هنا فقط أدرك الإنسان أنه يسير في طريق بني أساسا ليخدمه، لكنه ينقلب عليه كلما تقدم خطوة أعمق.
5. عصر الذكاء الصناعي :
" الوعد الذي يخفي داخله عباءة العبودية المفرطة "
في العصر الحديث، صنع الإنسان الذكاء الصناعي باعتباره مفتاح الرخاء القادم.
عالم من الأمان، الإنتاج الفوري، الصحة المحسنة، الحياة الذكية…
لكن خلف هذا الحلم يقف الوجه الآخر:
خطر خلق قوة طبقية جديدة، هجينة الجينات، تجمع بين البشري والتقني، وتملك القدرة على الهيمنة المطلقة.
إنها طبقة "السيد المخلق" الذي لا يشيخ، لا يمرض، لا ينسى، ولا يُستبدل.
طبقة تتفوق على البشر الأصليين الذين يحملون تاريخ الجسد وعيوبه وحدوده.
وهكذا يفتح الباب أمام نموذج جديد من العبودية—عبودية لم يعرف التاريخ مثيلها،
عبودية قد لا تمارَس بالسلاسل بل بالاستغناء عن الإنسان نفسه.
الخلاصة :
" الجريمة التي لم ترتكب دفعة واحدة "
لم تكن هذه الجريمة لحظة واحدة، بل سلسلة طويلة من الانحرافات الصغيرة، تراكمت عبر قرون حتى صنعت نظامًا حضاريًا قائمًا على تناقض أخلاقي جذري:
نطور كل شيء من أجل الإنسان، لكننا ندمر الإنسان في كل خطوة تطوير.
إن أعظم جريمة في التاريخ ليست حربا بعينها، ولا وباء واحدا، ولا اختراعا متوحشا…
إنها القدرة البشرية على تحويل أعظم ما خلقته—العقل—إلى أداة تدمير بطيء لذاته.
ويبقى السؤال مفتوحا:
هل يستطيع الإنسان إعادة هندسة مساره قبل أن يكتمل هذا المشروع الكارثي؟
أم أنه سيبني بيده نهاية زمنه، كما بنى بدايته؟