من الأجر مقابل العمل الى العمل الجزئي و الأجر مقابل ساعات العمل :


عبد الحفيظ حساني
2025 / 11 / 15 - 02:41     

لم يعد الهجوم على الوظيفة العمومية عملية خجولة أو غير معلنة. اليوم تُنفّذ الدولة عبر وزارات تُسوّق الوهم الاجتماعي مخططاً واضحاً: تحويل الموظف العمومي إلى أجير بالساعات، وتجريد الوظيفة العمومية من معناها، وفتح الباب أمام تدبير مُفوَّض يلغي الاستقرار المهني ويُسقط ما تبقى من حماية اجتماعية.
في سياق مسلسل الاجهاز على مكتسبات الوظيفة العمومية تتسابق وزارة الوظيفة العمومية والإصلاح الإداري وتتسارع مع الزمن بتنسيق مع وزارة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة والتعاون بينهما لتفكيك ما تبقى من قانون الوظيفة العمومية عبر تمرير مفهوم " العمل الجزئي " بمبرر تسهيل الحياة الإدارية و ملائمتها مع الحياة الأسرية و دلك بتقسيم ساعات العمل داخل الوظيفة العمومية و جعل الأجر مقابل عدد ساعات العمل " الفعلية " . في صورة كاريكاتورية ستحول نساء ورجال الوظيفة العمومية ليس فقط الى مياومين بل الى" مٌسايعين " ( خدامين غي بالسوايع ).
استراتيجية التقسيم الإداري والاجتماعي:
لفهم خطورة تصريح وزيرة التضامن وعرضها المعنون ب : نماذج جديدة لتوقيت العمل للنساء والرجال (العمل الجزئي / التوقيت المرن / العمل عن بعد). ومحاولة تضليل الموظفات والموظفين بإطفاء الطابع الاجتماعي والإنساني على عمل المرأة وملائمته وتمييزه بين العمل داخل البيت (غير مؤدى) وداخل الإدارة بقبول الاقتصار على عمل أربع ساعات مقابل نصف الأجر فقط. والنظر كدلك بعين الشفقة على دوي الاحتياجات الخاصة بفرض منطق المرونة الذي سيصبح إجباريا مع مراعاة تبعات تنزيل هذا لمخطط قد يصل الإجهاز حد التراجع عن جميع الرخص والتعويض الإجباري لساعات العمل ابان فترة الولادة أو الفترات المخصصة للرضاعة ولن نستبعد حتى التنازل عن كامل الأجر مقابل الاستفادة من العطلة السنوية ....
التفكيك الممنهج للوظيفة العمومية:
ولفضح خطورة هذا المخطط الملغوم بالطابع الإنساني والاجتماعي لا بذ أن نضعه في سياق مسلسل الاجهاز على مكتسبات الوظيفة العمومية وتنفيذ إملاءات الدوائر المالية المانحة للقروض.
هكذا تم تمرير قرار المغادرة الطوعية في وجه الموظفين سنة 2006 بتوصية من الينك الدولي بدعوى التخلص من الآلاف من الموظفين بالتالي تقليص كتلة الأجور التي تنهك الميزانية العمومية ...
وبعد تمرير قرار العمل بالعقدة وتمرير النسخة الأولى من القانون المشؤوم لضرب الحق في التقاعد. وبعد محاولة تصفية العمل النقابي وضرب الحق في الإضراب (تمرير قانون الإضراب المشؤوم). باعتباره آلية لردع لكل المخططات المشؤومة. اليوم تتضاعف وثيرة الهجوم و تتسابق الحكومة الحالية مع الزمن لاستكمال ما تبقى من عملية التفكيك لتمرير هذا المخطط بطريقة احتيالية تحت خدعة " نماذج جديدة لتوقيت العمل " وكأن الأمر يتعلق فقط بتدبير ساعات العمل على شاكلة التوقيت الصيفي .... و الحقيقة هذا المخطط المشؤوم أوصى به صندوق النقد الدولي تحت عنوان" تحسين مؤشرات الأداء" بوضع مؤشرات أداء واضحة وقابلة للقياس لمختلف الوظائف والإدارات الحكومية وربط الأجر بالمردودية والذي كانت بداية تنزيله مع حكومة بنكيران صاحب شعار أكبر كذبة حكومية " الأجر مقابل العمل " شعار تبين أنه أكبر كذبة حكومية يطلقها مسؤولون يتقاضون الملايين مقابل "اللاحضور" و"اللانتيجة".
والآن، تعود الدولة لاستعمال نفس الكذبة، لكن في نسخة أكثر خطورة:
الأجر مقابل ساعات العمل واستبدال الوظيفة العمومية بنظام " البوا نتاج بالساعة ".
تريد الدولة موظفاً يقبض حسب الدقيقة، ويتنازل عن نصف أجره مقابل نصف ساعات العمل ، ويتخلى بهدوء ومن دون احتجاج عن حقوق ناضلت لأجلها أجيلا ولعقود طويلة.
خلفية وجوهر مخطط " نماذج جديدة لتوقيت العمل " :
ما يجري اليوم ليس اجتهاداً محلياً.إنه تنفيذ حرفي لإملاءات مؤسسات مالية تعتبر الوظيفة العمومية عبئاً، وترى في الموظف رقماً يجب تصفيته أو تقليص كلفته. وكل "المكياج الاجتماعي" الذي يُغلف هذا المخطط ينهار أمام الحقائق التالية:
☆ ترويض الشغيلة وتحويلها إلى قوى عمل رخيصة
☆ الهدف ليس الأسرة، بل تقليص كتلة الأجور.
☆ الهدف ليس المرونة، بل شرعنة هشاشة العمل داخل الإدارة.
☆ الهدف ليس تحسين الأداء وتجويد العمل الإداري ورفع المردودية ، بل تحويل الإدارة إلى مقاولة ربحية.
إنها عملية ترويض اجتماعي وسياسي تُقدَّم تحت غطاء "الإصلاح" لتجريد الموظف من قوته التفاوضية، وسحب كل ضمانات الاستقرار منه.
يجب أن لا ننخدع وعلينا أن نقرأ ما بين السطور كي لا نكون ضحايا ساذجة، و أن نقرأ الخلفيات الحقيقية وراء أي مخطط تحاول الدولة تمريره لضرب المكتسبات التاريخية للشغيلة مهما كانت المبررات و صيغ المكياج المقترحة كما حصل في خدعة إلغاء السلالم الدنيا من 1 الى 5 . والتي انخدعت بها كل المركزيات النقابية حيث اتضح انها لم تكن بغرض ترقية الموظفين ذوي السلاليم الدنيا الى السلم السادس بل مجرد حيلة ( بقاء نفس الاجر ) لتصفية اليد العاملة و إقصاءها من ولوج الوظيفة العمومية لتمهيد الطريق أمام القطاع الخاص ،وتمرير خدمة المرافق العمومية عبر التدبير المفوض . . .
ونفس الشيء حصل بقبول الأنظمة الأساسية الخاصة بكل قطاع من قطاعات الوظيفة العمومية لتسهل المجزرة و ضرب كل قطاع على حدة ونسف أي وحدة نضالية. و تسهيل تمرير جميع التراجعات عبر قوانين تنظيمية.
إن الصورة جد واضحة من تجزيء قانون الوظيفة العمومية الى تجزيء ساعات العمل وتلكم هي حقيقة مشروع النماذج الجديدة لتوقيت العمل .
خلاصة: الحقيقة تُقال بلا رتوش :
لم تعد الدولة تُخفي نواياها وهي تسابق الزمن لتمرير مخطط يُقوِّض ما تبقى من مكتسبات تاريخية انتُزعت بالنضال والتضحيات..
.إن ما يُسوَّق اليوم كـ"نماذج جديدة لتوقيت العمل" هو في الجوهر تصفية للوظيفة العمومية وتحويل الشغيلة إلى مياومين بل الى " مٌسايعين "داخل إداراتهم.
وستظل الحقيقة ثابتة:
حين يُضرب الاستقرار المهني، يسقط كل شيء معه من الحقوق الاجتماعية إلى كرامة العامل.