اقتصاد الأنقاض: كيف تعيد حماس إنتاج نفوذها من باطن رخام غزة
ليث الجادر
2025 / 11 / 14 - 20:45
الحياة في غزة، كما تراها شاشات الفضائيات والفيديوهات، هي خرائب محترقة ووجوه جياع تتدافع على أي قدر طعام مجاني. تظهر الشباب والصبيان وهم يقطعون الطرق أمام شاحنات المساعدات لنهبها، في مشهد من الفوضى واليأس.
لكن خلف هذا العرض الصاخب، تدور عجلة صامتة، تتحصن فيها قلة من الغزيين، ممن يشغلون أنفسهم في الحفاظ على أوضاعهم المتميزة ضمن الإطار الطبقي. هؤلاء القلائل يجدون طرقًا للربح والاستمرارية حتى وسط الحرب والحصار، مستفيدين من الموارد المحدودة التي لا تصل إلى الأغلبية العظمى من السكان.
من بين هذه الموارد يبرز رخام غزة، ذلك الحجر الذي لطالما شكّل مصدر دخلٍ رئيسي لعدد من العائلات والمصانع في جنوب القطاع. ومع أن القصف دمّر البنية التحتية، فإن تقارير حديثة من وكالات دولية مثل OCHA ورويترز والعربي الجديد تشير إلى أن النشاط في بعض محاجر الرخام لم يتوقف تمامًا، بل استمر بشكل محدود ومتقطع خلال فترات الهدوء النسبي، من خلال ورش صغيرة تعمل بأدوات بدائية أو في مناطق تقل فيها شدة العمليات.
ورغم الحصار الإسرائيلي شبه الكامل، تَظهر سيناريوهات محتملة تفسّر كيف يمكن أن يتحرّك هذا القطاع في الخفاء:
فمن المرجّح أن يُسمح بمرور بعض الكميات من الرخام عبر وسطاء إسرائيليين يشترونه من منتجين محليين بالآجل، لتبقى عائداته معلّقة، وهو ما يضمن – من وجهة نظر إسرائيلية – عدم وصول الأموال مباشرة إلى حركة حماس. هذه الآلية الاقتصادية غير المعلنة قد تفسّر كيف يستمر قطاع الرخام في البقاء، ولو في نطاق ضيّق، حتى وسط الخراب العام.
لكن الصورة الأوسع تكشف أن المسألة لا تتعلق بالرخام وحده، بل بآلية أشمل: في كل حرب، هناك من يواصل الربح. في غزة، تواصل شريحة صغيرة – من رجال الأعمال المحليين أو التجار المرتبطين بشبكات خارجية – العمل في الظل، بينما يغرق الباقون في مأساة الحياة اليومية. إنّ الاقتصاد الطبقي في زمن الحرب لا يموت، بل يعيد تشكيل نفسه على مقاس الأقلية القادرة على النجاة.
بين الواقع والتحليل:
رغم أن المناطق الغنية بمحاجر الرخام تقع ضمن نطاق النفوذ التقليدي لحركة حماس في جنوب قطاع غزة، ولا سيما في خان يونس وضواحيها الشرقية، فإنّ المعطيات الميدانية لا تثبت وجود سياسة معلنة أو موثّقة لدى الحركة للسيطرة الاقتصادية على هذه المحاجر. ما هو مؤكَّد أن حماس تحتفظ بوجود إداري وأمني فعلي في تلك المناطق، من خلال لجان خدمية وهيئات طوارئ محلية، حتى في فترات التصعيد العسكري، وهو ما يتيح لها استمرار الحد الأدنى من الإدارة الميدانية.
أما القول بأن الحركة تتعمّد الإبقاء على نفوذها هناك لضمان السيطرة على مورد الرخام في مرحلة الإعمار المقبلة، فهو استنتاج تحليلي محتمل ينبع من الترابط بين الجغرافيا والاقتصاد والسيطرة السياسية في القطاع، لكنه لم يُؤكَّد بوثائق أو تصريحات رسمية. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أن مثل هذا السيناريو ينسجم مع طبيعة الاقتصاد الحربي في غزة، حيث يتحول النفوذ الميداني تلقائيًا إلى رأسمال سياسي واقتصادي في أي مرحلة ما بعد الحرب.
استدراك ختامي:
إنّ كل ما قيل هنا، وقد التزمنا فيه بأقصى درجات الموضوعية الممكنة، يضعنا أمام مثال حيّ على قدرة حركة حماس على إعادة إنتاج نفوذها في المرحلة المقبلة، لا بوصفها سلطةً ميدانية فحسب، بل كفاعلٍ اقتصادي–سياسي يملك أدوات الاندماج في معادلة الإعمار المقبلة.
فالمؤشرات الراهنة تُوحي بأن قطر وتركيا قد تلعبان دورًا مباشرًا في تمويل أو إدارة مشاريع الإعمار، وهو ما يمنح حماس مساحةً لإعادة التموضع من موقع “الضحية المحاصَرة” إلى موقع “الشريك المضطرّ في التسوية”.
أما البداية الفعلية لهذه المرحلة فستتجلى – على نحوٍ ساخر من منطق الحرب – في اضطرار إسرائيل إلى رسم ما يُعرف بالخط الأصفر: أي مناطق الفصل أو العزل التي ستُفرض لأسباب أمنية، لكنها ستتحول عمليًا إلى حدودٍ اقتصادية جديدة تُعيد رسم موازين السيطرة داخل القطاع.
وهكذا، فإن مشهد الرخام – بين الحصار والأنقاض – ليس سوى إشارة استشفافية لما قد تكون عليه غزة الغد: اقتصادٌ مجزّأ، تهيمن عليه مصالح طبقية متشابكة، وحركةٌ تعرف جيدًا كيف تقتات على بقايا الخراب لتستعيد حضورها من جديد.