الجيل زدّ يتظاهر في جميع أنحاء العالم
حازم كويي
2025 / 11 / 14 - 00:49
اليمين يسعى إلى تفكيك روح التضامن،لكن بوادر المقاومة عادت للظهور من جديد.
أليكس ديميروفيتش(*)
ترجمة:حازم كويي
وفقاً لرأي الكاتب.تُطلعنا الأخبار اليومية واستطلاعات الرأي بأن اليمين يزداد قوة يوماً بعد يوم، ويحقق نجاحاً تلو الآخر. والسياسات الحاكمة لا تفعل شيئاً لوقف ذلك، بل تعزز هذا الانطباع أكثر. فبذريعة كاذبة مفادها أنها تسعى إلى كبح اليمين المتطرف أو حتى الحدّ منه، تروج هذه السياسات لمواقف يمينية خاصة بها. وأحدث مثال على ذلك هو تصريح المستشار الألماني فريدريش ميرتس(الحزب الديمقراطي المسيحي) ــ الذي يبدو في الآونة الأخيرة دائم الابتسامة ــ حول ما سماه «المشهد الحضري».
في جوهر الأمر، كان يمكن أن تشكّل هذه المداخلة إضافة جيدة.
فبالفعل، يمكن أن تُفتح من خلال موضوع «المشهد الحضري» مناقشة ديمقراطية تُفضي إلى قرارات مهمة: فهناك تخطيط عمراني سيئ يفتقر إلى رؤية بيئية، وعمارة قبيحة، وحركة مرور صاخبة، مليئة بالدخان، واستهتار بحقوق راكبي الدراجات، وحافلات وقطارات تتأخر باستمرار، ومناطق مخصصة للمشاة مليئة بالمحالّ الفارغة، تحاول البلديات إنعاشها بصرف أموال طائلة.
ميرتس لاحظ هذه المآسي في القطارات ومترو الأنفاق. حيث يخطر ببال المرء أنه يشبه أولئك الخلفاء الذين تروي عنهم حكايات “ألف ليلة وليلة”، الذين كانوا يتنكرون وينزلون بين الناس. فهو يدرك تماماً أن قطارات المترو والضواحي مكتظة بالركاب ــ ولا سيما تلك التي تتجه نحو الأطراف الفقيرة من المدن.
بدلاً من ذلك، يجري رسم صورة منحازة وموجَّهة عمداً.
فأولئك الذين يُغرقون المشهد الحضري بسياراتهم وزحامهم المروري هم السلطة غير المعلنة التي تُصدر الأحكام، في حين يُختزل الآخرون ــ الذين لا خيار أمامهم سوى استخدام المترو أو الحافلات ــ بشكل عنصري في ما يُسمى بـ«المشهد الحضري».
وفي كل زاوية، تُدرّب السياسة الحاكمة ووسائل الإعلام الناس على القسوة: إذ يُراد إقناعهم بأن المهاجرين هم السبب في كل شئ.
الخوف ما زال يسكن قلوب المُحافظين من تلك اللحظة في عام 2015، حين رحّب معظم الشعب الألماني باللاجئين وساندهم. أمّا الآن، فيُخطَّط لما يُسمّى بـ«مراكز العودة» خارج حدود الاتحاد الأوروبي ــ هناك، في أراضٍ بلا قانون ولا حقوق، يُفترض أن يُحتجز المهاجرون لأشهر وربما لسنوات. في مخيمات تنظر اليها في كل مكان.
وقد بات من الضروري أن نسأل: ما الذي سيحدث في تلك البلدان التي يأتي منها المهاجرون واللاجئون، عندما تفقد تحويلات العاملين في الخارج التي كانت تُعدّ مصدراً حيويًا لاقتصاداتها؟
من بين تمارين القسوة والبرود التي يكررها السياسيون الألمان باستمرار، نجد الهجمات على نظام الرعاية الصحية، وعلى العاطلين عن العمل، ونظام التأمين التقاعدي.
الحديث يدور دائماً حول ما يسمونه تكاليف الأجور الجانبية، أي المستحقات الاجتماعية، والهدف الحقيقي هو ممارسة الضغط على العمال حتى يعملوا بانضباط ويقبلوا بأجور منخفضة.
ففي الواقع، وبفضل التطور الكبير في الإنتاجية والثراء العام في المجتمع، يمكن تقليص مدة حياة العمل بشكل كبير، بحيث يعيش الجميع حياة كريمة ومريحة.
لكن ما يحدث هو العكس تماماً: الثروة المُتراكمة منذ عقود تُستحوذ عليها أقلية صغيرة.
أما خدمات المستشفيات فتزداد سوءاً، وخدمات التأمين الصحي والرعاية ترتفع كلفتها باستمرار، في حين لا تُطوَّر، أي حلول حقيقية وجيدة.
بل على العكس، يجري تغذية الانقسامات والتناقضات الاجتماعية عمداً.
ومن بين هذه الانقسامات التناقض بين الأجيال في مسألة التقاعد ــ بين الشباب وكبار السن.
فجيل “الطفرة السكانية” (Boomer)، الذي حمل على عاتقه إنجازات الاقتصاد خلال العقود الماضية، أصبح اليوم موضع هجوم وانتقاد.
وقد يقول البعض: “إنهم يستحقون ذلك”، لأن النموذج الاقتصادي الذي تبنّوه كان خاطئاً منذ البداية ــ نموذج يقوم على النمو المستمر، والمنافسة بين الدول على جذب الاستثمارات، وتدمير الطبيعة، واستغلال بلدان الجنوب العالمي.
أما الآن، وقد أصبحوا متقاعدين، فقد حان دورهم ليُدفعوا إلى الهامش:
فهم لم يعودوا “مفيدين”، ولا يملكون القدرة على الدفاع عن أنفسهم.ويُتحدث عنهم اليوم كما لو كانوا مجرد عبء مالي، دون الاعتراف بأنهم هم من يدعمون أبناءهم وأحفادهم مالياً وعاطفياً.
لكنّ الهجوم على كبار السن هو في الحقيقة هجوم على الشباب أيضاً،إذ يُحرَم هؤلاء من إمكانية الحصول على تقاعد في المستقبل.
فحتى نظام التأمين التقاعدي الاجتماعي، الذي كان يُفترض أن يوفّر الأمان، قد جعل الناس أفراداً مُتنافسين بدل أن يكونوا مُتضامنين.
ومع الانتقال إلى نظام التقاعد القائم على التمويل الرأسمالي، أي على الاستثمارات في الأسواق، ستزداد هذه الفردانية، حيث تُفرَض تمييزات سوقية بين “المخاطر الجيدة” و“المخاطر السيئة”.
وهكذا سيصبح التقاعد مرتبطاً بقدرة الفرد على الدفع، وبـ مدى استقرار وظيفته، وبتقلبات الأسواق المالية.أي أن عدم الأمان في التقاعد، وانهيار أنظمة التأمين، أصبحا أمرين مبرمجين سلفاً، وستصبح الدعمات الحكومية المكلفة أمراً لا مفر منه.
لذلك، نحن بحاجة إلى نظام تقاعد قائم على التضامن الجماعي (نظام إعادة التوزيع) يشارك فيه الجميع.
ويجب على الشباب ألا يقبلوا بالفتات، وألا يستسلموا لفكرة أنهم لن يحصلوا على تقاعد أبداً، وألا يُسمح باستخدامهم ضد الجيل الأكبر سناً.فهذا الموقف بحد ذاته يُعدّ شكلاً من أشكال مقاومة الفاشية.
لكن الحقيقة أيضاً هي أن اليمين يواجه مقاومة متزايدة في العديد من بلدان العالم.
ففي ظل شعار «الجيل زدّ» (Gen Z)، يشهد العالم موجة من الاحتجاجات الشبابية ــ من بيرو ونيبال والمغرب ومدغشقر إلى الفلبين وروسيا وإسرائيل والولايات المتحدة وفرنسا.
هؤلاء الشباب يخرجون إلى الشوارع ضد الفساد، ونقص الديمقراطية، والظلم الاجتماعي، وخطط إصلاح أنظمة التقاعد التي تدمر المستقبل.
وقد أصابت هذه الاحتجاجات وسائل الإعلام بالدهشة، لأنها تجبر الحكومات على الاستقالة أو التراجع عن خططها الرجعية.
نعم، هذه الحركات جديدة وغير جديدة في آن واحد:
فقد سبقتها حركة «السترات الصفراء»، والاحتجاجات الطويلة ضد محاولة ماكرون تمرير ما سماه «إصلاح نظام التقاعد»،كما كانت هناك حركات مثل «أيام الجمعة من أجل المستقبل» (Fridays for Future) و«الجيل الأخير» (Letzte Generation)،وكلها تعرّضت للتهجم والتشهير من قبل الساسة الرسميين بدل أن تلقى الدعم.
فبدلاً من مواجهة اليمين وتعزيز الديمقراطية، قامت السياسة الحاكمة بمحاربة الحركات الديمقراطية والبيئية والمناهضة للعنصرية.
كم تبلغ درجة الفساد في ألمانيا؟ مئات الملايين من اليوروهات أُهدرَت على يد أندرياس شاوَر(وزير النقل السابق في جمهورية ألمانيا الاتحادية)، ومليارات اليوروهات أُهدرَت من قبل ينس شبان(منذ مايو 2025، رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي (CDU/CSU).)، ومليارات أخرى ضاعت بسبب الحيل الضريبية المدعومة من السلطات المالية العليا مثل صفقات Cum-Ex وCum-Cum(هي نماذج احتيالية تتعلق بضريبة الأرباح الرأسمالية على توزيعات الأسهم.)، بالإضافة إلى التهرب الضريبي القانوني وغير القانوني.
لقد حان الوقت منذ زمن طويل لكي يخرج جيل زدّ في ألمانيا إلى الشوارع، للانضمام إلى الاحتجاجات العالمية والدفاع عن مستقبلهم.
أليكس ديميروفيتش* ينحدر من عائلة يوغوسلافية-ألمانية، فقد تم اختطاف والده كعامل قسري من قبل النازيين.وبسبب فيتو سياسي من وزارة العلوم في ولاية هيسن، لم يُسمح لديميروفيتش بأن يصبح أستاذاً في فرانكفورت.