الحياحة الرقمية


الهيموت عبد السلام
2025 / 11 / 11 - 19:35     

في المقال السابق تحدثنا عن "الحياحة" كأدوات بشرية وظيفتهم أن يصرخوا في الساحات والأسواق والتجمعات السياسية ، و يثيروا الفوضى ويزرعوا الخوف وسط الناس والقبائل، ولم يكن لهم لا حس وطني أو إنساني أو مشروع سياسي ، بل كانوا مجرد جماعات بسيطة حُرمت نعمة الوعي والقراءة وٱمتلكت العضلات والأصوات الصاخبة والمجلجلة ، إذا كان الحياحة يشتغلون بالصوت والجسد في الساحات والأسواق ، فإن الحياحة الرقميين أو المتحولين السياسيين هم خريجو جامعات ومناضلو أحزاب وإعلاميون وأقلام، يشتغلون في وسائل التواصل الاجتماعي اليوم بالخطاب والكتابة والصورة، أي أنهم يمارسون العنف الرمزي بدل العنف الجسدي، وظيفتهم تلميع مشاريع السلطة والمنتخبين وذوي النفوذ، والتشهير بالمنتقدين والمختلفين والمعارضين .

* من لم ينضج سياسيا ينضج سلطويا (عابد الجابري)
المتحول السياسي بالمناسبة كان يناضل من أجل مجتمع الكرامة والحرية والعدالة والاشتراكية، وكان يكتب عن حرية الصحافة وحقوق الإنسان ، أما اليوم فانتقل لمعسكر التبرير و يطلب تشديد العقوبات على المعتقلين وشيطنة الحراكات الاحتجاجية ويطالب بطرد كل من ينتقد السلطة من الوطن بل واستعمال الرصاص الحي على الاحتجاجات السلمية .
ولأن المتحول يحتاج دائما لإتباث الولاء يهاجم رفاقه السابقين بعنف أكبر مما يفعل أولياء نعمته ، ولا يستطيع الصمت ليوم واحد بل أصبح عدواً شرساً لذاكرته، و يرى في رفاقه نسختَه التي يحاول قتلها داخلياً، يزيد عدوانه كلما رأى فيهم الثبات على مواقفهم لأنه يشعر بأنهم يُعرّونه أمام نفسه.
المتحوّل غالباً ما يصبح أكثر شراسة من مُشغله ، يزايد على السلطة فيطلب المزيد من القمع والعدوانية، ليُثبت أنه لم يعد ينتمي لرفاق الأمس .
السلطة أحيانا قد تعفو أو قد تتجاهل من يعارضها لحسابات وتوازنات سياسية معينة ، أما المتحوّل فيرى ذلك التسامح تنازلا وتهديدا لوجوده، ويرى أن أي تسامح يهدد صورته الجديدة كـرجل النظام المخلص ، يرفض الحوار والتسامح لأنه يشعر دائماً أن ماضيه في المعارضة يطارده، فيحاول أن يمحوه بمواقف حديدية ضد رفاق الأمس،و تزداد كل مرة جرعات العداء الصريح لجماعته القديمة ، العدوانية ضد الماضي هو اعتراف مقنّع بأن ذلك الماضي لا يزال يسكنه وأنه لم يتحرّر منه بعد، يقول "دانييل لاغاش" : يحدث أن يهاجم المتحول من تقاسم معهم أفكارا وأحلاما، لا لأنهم تغيّروا بل لأنه لا يتحمل أن يراهم لم يتغيروا مثله ، وحين يهاجم رفاقه السابقين فهو لتقديم فروض الطاعة علنا ومحاولة التطهُّر من الخزي الداخلي و من خطاياه القديمة و التكفير عما أصبح يسميه بالمراهقة والغوغائية والشعبوية و أوهام الثورة وسذاجة النضال.

* أسوأ ما يمكن أن يحدث للمثقف هو أن يتحول إلى شاهد زور للسلطة ( إدوارد سعيد)
في المقابل السلطة و دوائرها تحتاج دائمًا من يهاجم بالنيابة عنها كي تظهر نظيفة اليد أمام الرأي المحلي والعام ،ولذلك تستفيد من هذا الحماس الزائد للمتحول و تمنحه هامشاً واسعاً من السبّ والقذف والتشويه والتشهير ، السلطة ترعى المتحول لأنه يعرف اللغة القديمة وكيف يستخدمها في التشويه والتشهير يقول "غرامشي": أخطر الخونة هم أولئك الذين يعرفون لغة الثورة ويستعملونها في خدمة السلطة."
إن السلطة تستخدمه ولكن لا تعامله كشريك حقيقي بل تستغل خوفَه الدائم من أن يُلقى به في الهامش إذا انتهت الحاجة إليه، فلذلك يبالغ في الولاء والعدوانية لإثبات وجوده وعنهم يقول "عبدالله العروي" بعض المثقفين يبدأون بالثورة على التاريخ، ثم ينتهون حراساً له.
يعيش المتحول رهابا داخليا مزمنا من انكشاف زيفه، فيبالغ في التشدد حتى يحظى بمكافآت المنابر والألقاب والجوائز و المقاعد و يستمر في جلد ماضيه ورفاق الأمس حتى يسقطوا سقطته أو يسحبهم معه إلى القاع المخزي الذي وصله ، و قد لا يستطيع المتحول النوم ورفاقه أحياء لازالوا يفكرون ويحلمون.
المتحولون سياسيا فئة قليلة وعالية الضجيج وما يجعل أثرهم يبدو أكبر من حجمهم الحقيقي هو أنهم يمتلكون منابر عالية الصوت ومنصات ممولة بسخاء وقنوات مقربة من السلطة ، وحضور دائم في النقاشات التلفزية والرقمية ولكن ذكاء المغاربة وحدسهم سرعان ما يميزون بين خطابات الدعاية والإلهاء والتشويش و التعويم والإغراق للنقاش العمومي بمواضيع دعائية تمجيدية و بين الأصوات والأقلام المستقلة التي يمنع ولوجها القنوات العمومية والرقمية، وذلك المنع لقامات ومرجعيات نضالية وحقوقية وفكرية لوحده يفسر الحكاية كلها.
المتحول اليساري العدواني، الذي يهاجم ماضيه ورفاقه لا يبرر الاستبداد والتطبيع فقط بل يبرر الإبادة والتجويع والتهجير وجرائم الحرب التي ارتكبها جيش الاحتلال في غزة ، لا يفعل ذلك لأن الوقائع غامضة بل لأن حاجته النفسية العميقة إلى القوة والأمان والتماهي مع السلطة تطغى على إنسانيته.
المتحول السياسي لا يساهم فقط في التشهير والقتل الرمزي بل يلوث المشهد السياسي حتى لا ينطلق نقاش عمومي حر وتعددي تشارك فيه جميع فعاليات وحساسيات المجتمع في مناخ يطبعه التناظر السياسي الصحي والمقارعة الفكرية المفيدة والحصول على المعلومة ، يقوض المتحول كل شروط النقاش الهادف حتى لا تقوم قائمة لمناخ متمدن وحضاري يساهم في رفع الوعي السياسي والثقافي لجميع المواطنين ، وبناء المجتمع الذي يتحول فيه الاختلاف من تهديد وتشهير وخوف وكراهية إلى مصدر ثراء فكري وتنوع ثقافي، ومن توسيع للفرقة إلى فضاء للتعايش ، مجتمع تعلو فيه قيمة الحجة والفكرة والبرهنة على صوت الصيحة، في فضاء لا يُهزم المختلف بإسكاته أو قتله رمزياً لأنه ينتقد أو يعارض السلطة ، بل يجب أن يُحترم ويُسمع له في جميع القنوات والمنصات المتاحة، ثم تجارى حججه بالحجج، وتُقابل أفكاره بالأفكار وليس بالسب والقذف والتشهير والتأليب والقتل الرمزي .