الاقتصاد الرقمي وحملة الإنفاق العسكري: حين تتحوّل التكنولوجيا إلى أداة استنزاف للأطراف


ليث الجادر
2025 / 11 / 11 - 16:52     

ما تعجّ به مراكز الأبحاث البرجوازية من صراخٍ مفتعل عن “انهيارٍ وشيكٍ في علاقات الدول العظمى” وعن “حربٍ كونيةٍ على الأبواب”، ليس سوى ضجيجٍ مُوجّهٍ لتسويق دورةٍ جديدة من سباق التسلّح. فالقوى الكبرى لا تستعد للحرب كي تخوضها، بل كي تبيع استعدادها. الصراع المعلن على الشاشات هو غطاءٌ لاقتصادٍ حربيٍّ رقمي، تُدار فيه الأسواق بالتخويف، وتُدار به الأطراف بالهلع.

1. من الثورة الرقمية إلى السوق العسكرية

منذ عقدين، تداخلت الحدود بين المدني والعسكري في البنية التكنولوجية. الذكاء الاصطناعي، والروبوتات القتالية، وأنظمة القيادة الذاتية، وحرب البيانات – كلها مشاريع بدأت كابتكارات مدنية ثم استُوعبت داخل الصناعة الدفاعية.
ففي عام 2024 مثلاً، أبرمت وزارة الدفاع الأمريكية عقودًا تجاوزت 11 مليار دولار مع شركات برمجية مدنية لتطوير أنظمة “تحليل التهديدات عبر الذكاء الاصطناعي”. وفي الصين، أنشئ “التحالف المدني–العسكري للتقنيات الناشئة” الذي يدمج الجامعات وشركات الاتصالات في خدمة التحديث العسكري.
أما روسيا، فحوّلت أكثر من نصف استثماراتها في الذكاء الاصطناعي إلى برامج دفاعية مرتبطة بالتحكم الآلي في الطائرات المسيّرة.
بهذا، أصبحت التكنولوجيا — التي كانت تُعرَّف بالتنمية — ساحةً لتكريس الهيمنة.

2. الأطراف في فخّ التحديث العسكري

في المقابل، تجد دول الأطراف نفسها مضطرة للحاق بهذا السباق.
إيران تستثمر مليارات الدولارات في تطوير الذكاء الاصطناعي الدفاعي والطائرات المسيّرة، لا طموحًا في حربٍ بل دفاعًا عن “هيبةٍ تقنية”.
تركيا تُروّج لطائراتها “بيرقدار” كرمزٍ سيادي، بينما تعتمد في المكونات الإلكترونية على سلاسل توريد غربية.
مصر تبرم اتفاقات رقمية مع كوريا الجنوبية لتحديث منظومتها الدفاعية، والسعودية تنشئ مصانع للأسلحة الذكية تحت إشراف شركات أمريكية.
هكذا تتحوّل “السيادة الرقمية” إلى وهمٍ جديد: استقلالٌ ظاهري، تبعيةٌ تكنولوجية كاملة.
كل هذه الدول تنفق من مواردها الريعية على تحديث عسكري لا يحميها من شيء، لكنه يضمن استمرار دوران السوق العالمية للسلاح.

3. أيديولوجيا الخوف الرقمي

الخوف هو الوقود الأيديولوجي لهذا النظام.
الأنظمة السلطوية في الأطراف تبرّر إنفاقها الدفاعي الضخم بخطابات “الأمن القومي” و”التهديدات القادمة”، بينما تسوّق الشركات الكبرى هذا الهلع عبر الإعلام والخبراء المموّلين.
هكذا يُعاد إنتاج فكرة “الخطر الدائم” كآلية لإقناع المواطن بضرورة التضحية بالتنمية مقابل “الأمن”.
إنها نفس الميتافيزيقا القديمة، لكن بثوبٍ رقميٍّ جديد: الخطر الغامض الذي لا يمكن دحضه، لأنه متحوّل ومجرّد — اختراق إلكتروني، هجوم سيبراني، تسريب معلومات.
في ظلّ هذا الخوف الممنهج، يصبح الحاكمُ ضامنَ النجاة، وتصبح الشركاتُ الدفاعيةُ حارسةَ المستقبل، فيما تُستنزف الثروات تحت شعار “الحماية”.

4. الرأسمالية الحربية الجديدة

ما نراه ليس سباقًا بين دول، بل تنسيقٌ بين نماذج.
الولايات المتحدة، الصين، وروسيا تتقاسم خرائط السوق: من يزوّد الشرق الأوسط، من يهيمن على إفريقيا، من يمدّ أوروبا بالتقنيات الدفاعية.
النتيجة: نظامٌ عالميٌّ يعمل بالحرب دون أن يخوضها، يُنتج السلام بوصفه هدنة استهلاكية.
فالحرب لم تعد أداة سياسية، بل شكلًا من أشكال الإدارة الاقتصادية.
إنها الحرب كعملٍ دائم: لا بداية ولا نهاية، فقط تحديثات متلاحقة في البرامج، وتوقيعات مستمرة على عقود توريدٍ جديدة.

5. نحو اقتصاد رقمي تحرّري

البديل لا يكمن في رفض التكنولوجيا، بل في تحريرها من الوظيفة العسكرية.
ينبغي إعادة تعريف “الأمن” لا بوصفه قدرةً على الردع، بل بوصفه قدرةً على الاكتفاء.
اقتصادٌ رقمي تحرّري هو اقتصادٌ يُوجّه المعرفة نحو إنتاج الغذاء والطاقة والطب والتعليم، لا نحو تصنيع الرعب.
ذلك يتطلّب ثلاثة شروط أساسية:

1. شفافية تامة في الإنفاق الدفاعي والتقني، لكشف العلاقة بين القطاع الرقمي والقطاع العسكري.

2. استقلال معرفي عبر بناء بنية بحثية محلية مفتوحة المصدر، لا تعتمد على برمجيات مغلقة تخدم الجهة المصنِّعة.

3. فصل تشريعي بين الرقمنة المدنية والتحديث العسكري، كي لا تُستدرج الدول إلى “التسلّح كرمزٍ للحداثة”.

بهذه الخطوات فقط يمكن كسر الحلقة الجهنمية التي تربط التطور الرقمي بالاستنزاف العسكري، واستعادة التكنولوجيا كأداةٍ في خدمة الإنسان لا كسلاحٍ ضده.

خاتمة

الحرب القادمة ليست صاروخًا يُطلق، بل عقدًا يُوقَّع.
هي حربٌ تستهلكنا دون أن تقع.
وفي زمنٍ كهذا، تصبح مقاومة الحرب الرقمية هي مهمة الفلاسفة بقدر ما هي مهمة الاقتصاديين؛ لأن ما يُباع اليوم باسم “الأمن” ليس إلا فقدانًا بطيئًا للسيادة.
إنّ إنقاذ التكنولوجيا من يد السوق هو المعركة الأخيرة التي ينبغي خوضها، قبل أن يتحوّل الإنسان نفسه إلى مشروعٍ دفاعيٍّ قيد التحديث.