زلزال ممداني: صعود جماهيري وفرصة لليسار الثوري

نورا الرافعي
2025 / 11 / 7 - 09:14     


لم يكن فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك مجرّد حدثٍ انتخابيّ، بل لحظةً مفصلية في التاريخ السياسي والاجتماعي للمدينة. إنه ليس انتصارَ شخصٍ أو حملةٍ ذكية، بل تعبيرٌ حيّ عن تغيّرٍ عميق في وعي الجماهير العاملة في واحدةٍ من أكثر مدن العالم خضوعًا لهيمنة رأس المال. إنّ الناس الذين طالما وُصِفوا بأنهم “الصوت الصامت” قرروا هذه المرة أن يتكلّموا، لا عبر الشعارات، بل عبر صناديق الانتخابات التي هزّت البنية السياسية القديمة. التحدي الحقيقي الآن ليس الحفاظ على موقع ممداني، بل تحويل هذا التفويض الشعبي إلى قوة منظّمة. فكل تجربة انتخابية تبقى محدودة إن لم تُترجم إلى شبكات حقيقية تمتلك قدرة الفعل: لجان أحياء، روابط مستأجرين، نقابات عمّالية حيّة، وأدوات رقابة جماهيرية للميزانية والسياسات. عندها فقط تتحول الجماهير من كتلةٍ انتخابية إلى قوةٍ اجتماعية قادرة على الفرض والمساءلة.

في ظلّ عودة ترمب إلى الحكم وتصاعد الوحشيّة اليمينيّة في الولايات المتحدة، لا يبدأ التحليل الحقيقي لفوز ممداني من سيرته الشخصيّة، بل من ملايين الناس الذين صوّتوا له رغم هذا المناخ المعادي. فعلى امتداد انتخاباتٍ احتكرها لعقودٍ تحالفُ المال والإعلام والمصالح العقاريّة، اختار الناخبون هذه المرة مشروعًا نقيضًا جذريًّا: مشروعًا مُناصرًا للطبقة العاملة يتحدّث عن تجميد الإيجارات، والنقل العام المجاني، وتحويل الخدمات العامّة إلى حقوقٍ لا امتيازات. وقبيل الانتخابات بأسابيع، أفاد 68% من سكّان نيويورك بأنّ تكلفة المعيشة باتت “غير محتملة”، وأكّد نحو 60% أنّهم لا يثقون بالنخبة السياسيّة القائمة. هؤلاء هم الذين صنعوا الانتصار لأنهم رأوا في ممداني ترجمةً لصوتهم ورفضهم، وإشارةً إلى إمكانيّةٍ جديدة بأن تُدار المدينة من أسفل لا من أعلى. وفي مشهدٍ غير مسبوق منذ نصف قرن، توجّه أكثر من مليونيّ ناخبٍ إلى صناديق الاقتراع وهي أعلى نسبة إقبالٍ في انتخابات رئاسة البلديّة منذ أكثر من خمسين عامًا في دلالةٍ واضحة على أن الناس لم يعودوا ينتظرون “الإصلاح من الأعلى”، بل يسعون لفرض بدائلهم من الشوارع، من الأحياء، ومن قلب الطبقة العاملة التي قررت أن يكون لها صوتٌ سياسيٌّ واضح ومباشر.

لكن فوز ممداني لا يعني أن النظام سيسمح بمرور هذا المشروع الشعبي دون مقاومة. فالقوى التي يهددها هذا التحول وول ستريت، الحزب الديمقراطي، وإدارة ترمب بدأت بالفعل بالتحرك لإعادة ضبط المشهد. وول ستريت والقطاع العقاري لن يقفا مكتوفي الأيدي أمام سياساتٍ تمسّ أرباحهما المباشرة، من ضرائبٍ أعلى على الأغنياء إلى تجميدٍ للإيجارات.

ستُطلق دوائر المال سرديات “هروب الاستثمارات” و”تآكل ثقة السوق”، وتستخدم نفوذها في الصحافة والأسواق لرفع تكلفة الاقتراض على المدينة أو لترهيب المؤسسات المالية من التعامل مع إدارتها. أمّا الحزب الديمقراطي فسيلجأ إلى أساليبه المعهودة في “الاحتواء الناعم”: فتح قنوات استشارة، لجان عمل مشتركة، وصفقات “واقعية” تُفضي في النهاية إلى دمج الحركة داخل هياكله وتحويل خطابها من مطلبٍ جذري إلى برنامجٍ إداري محدود. هذا النمط ليس جديدًا؛ فالحزب يمتلك تاريخًا طويلًا في امتصاص الحركات التقدّمية وتحويل طاقتها إلى أدواتٍ إصلاحية تُعيد إنتاج النظام بدل تقويضه.

أما إدارة ترمب الثانية، فتدرس “آليات مشروعة” لحجب التمويل عن المدن التي تُصنَّف بأنها تتبنّى “أجندات يسارية معادية للأمن القومي”، وهو توصيفٌ مطاط يُستخدم كذريعة لمعاقبة الإدارات المحليّة التقدّمية. ومن المتوقع أن تُوجّه هذه التهديدات مباشرة إلى نيويورك، بذريعة “الانحراف عن السياسات الفيدرالية” في ملفات الهجرة أو إدارة الشرطة. عبر هذا المسار، يمكن تحويل أي أزمةٍ اقتصادية أو عجزٍ في الخدمات إلى أداةٍ لإثبات “فشل اليسار”، وتبرير إجراءاتٍ تأديبية فيدرالية ضد المدينة.

الأخطر من كل ذلك هو أن هذه الضغوط الخارجية تتقاطع مع ديناميكيةٍ داخلية قد تُفضي إلى تآكل المواقف الجذرية نفسها. فممداني، رغم شعبيته وجذوره اليسارية، يبقى سياسيًا إصلاحيًا يتحرك ضمن حدود النظام. وتحت الضغط المستمر من رأس المال، الحزب، والإدارة الفيدرالية، قد يجد نفسه كما وجد كثيرون من قبله متراجع عن مواقفه الجذرية. التي شاهدنا بالفعل بوادر حدوث ذلك في آخر فترة قبل الانتخابات النهائية حيث تراجع عن مواقفه الحادة من الكيان الصهيوني واعترف بحق تواجد “دولة إسرائيل”. هذه الضغوط وتراجعات لا تستهدفه كشخص بقدر ما تستهدف طموح الجماهير التي انتخبته. وتمامًا كما حدث مع رموز اليسار الإصلاحي في الولايات المتحدة والعالم، ينتهي الإصلاح داخل مؤسسات الدولة غالبًا إلى التماهي مع منطقها لا تغييره.

من هنا، يجب أن ندرك أن هذه اللحظة ليست عن ممداني، بل عن الجماهير التي صنعته، وعن ضرورة الوعي بحدود السياسة الانتخابية. فالفوز الانتخابي ليس إنجازًا ثوريًا بذاته، بل نافذة مؤقتة للتوسع في التنظيم وبناء الوعي الطبقي. الانتخابات يمكن أن تمنحنا موقعًا، لكنها لا تُسقط النظام الذي نواجهه. والأنظمة الرأسمالية، حين تهتز، لا تهاجم فقط، بل تُهدِّئ وتحتوي، وتُقدّم إصلاحاتٍ رمزية هدفها إعادة الجماهير إلى حالة انتظارٍ سلبي بدل الدفع نحو المواجهة والتغيير الجذري.

واحدة من أبرز التحولات التي كشفتها هذه الانتخابات كانت صعود الوعي السياسي المرتبط بالقضية الفلسطينية. ففي استطلاع رأي أُجري في أكتوبر 2025، أبدى 43% من سكان نيويورك تعاطفهم مع الفلسطينيين مقابل 22% فقط مع الكيان الصهيوني. هذا التحول ليس تفصيلًا هامشيًا، بل مؤشرٌ على تغيّرٍ ثقافيٍ جذري؛ فالقضية الفلسطينية لم تعد “خارجية”، بل أصبحت رمزًا للعدالة الطبقية نفسها. فالناس بدأوا يدركون أن النظام الذي يقصف غزة هو ذاته الذي يرفع الإيجارات في بروكلين ويغلق المستشفيات في برونكس. الجرائم التي يرتكبها الاحتلال، والنفاق الرسمي الأمريكي المرافق لها، كشفت بنية الدولة الرأسمالية أمام ملايين الناس، وربطت بين دعم الإبادة هناك وتجويعهم هنا. هذا الوعي الجديد هو الذي صنع الأرضية التي وقف عليها ممداني، لا العكس.

كاشتراكيين ثوريين، لا نرى فوز ممداني كغايةٍ في ذاته، بل كبدايةٍ لتحولٍ أعمق. قد يتراجع، وقد يُساوم، كما فعل كثيرون من رموز اليسار الإصلاحي. لكن هذا لا يغيّر جوهر ما حدث: الجماهير تحرّكت، والوعي تغيّر، والناس اختبروا للمرة الأولى قدرتهم على فرض خيارٍ ينبع من مصالحهم الطبقية في مواجهة المؤسسة الحاكمة. الانتصار هنا ليس ممداني، بل أولئك الذين أوصلوه: العمّال، والمستأجرون، والطلبة، وسكّان الأحياء المهمّشة الذين أثبتوا أن السياسة ليست ملك النخب. إنها لحظة انتصارٍ للوعي الطبقي، لحظة انتقال الأفكار الجذرية العدالة، المساواة، التضامن من قاعات النقاش إلى شوارع المدينة. خرجت الاشتراكية من الهامش إلى الواقع، من النظرية إلى الممارسة اليومية.

لهذا، على الجماهير أن تبقى يقظة أمام أساليب التهدئة التي ستستغلها السلطة من وعودٍ تدريجية وبرامج منقوصة إلى خطابٍ “واقعي” يدعو إلى الصبر والاعتدال. فكل تنازلٍ من أعلى لا يهدف إلا إلى نزع أنياب الحركة من تحت. والوعي بهذه اللعبة هو الخط الفاصل بين لحظة انتصارٍ مؤقتة، ولحظة بناءٍ حقيقي لوعيٍ طبقيٍّ ثوري يواصل النضال حتى بعد أن يخفت وهج الانتخابات.

مدينة نيويورك ليست مجرد بلديةٍ كبرى؛ إنها قلب الرأسمالية العالمية. وأن تهتز هذه القلعة تحت ضغط الوعي الشعبي يعني أن الأرض نفسها بدأت تتحرك. إنّ هذا الانتصار الجماهيري ليس نهاية الطريق، بل بدايته: بداية مرحلةٍ يمكن فيها للطبقة العاملة أن تُدرك قوتها وتبني أدواتها الثورية. قد يُخفق ممداني، لكن الفكرة انتصرت. لقد أظهرت انتخابات نيويورك أن الجماهير ليست كتلةً خاملة كما يريدها النظام، بل طاقةٌ قادرة على خلق السياسة من جديد. المستقبل الآن بيد الناس أنفسهم في المصانع، في الجامعات، وفي الشوارع. هذه اللحظة، بكل تناقضاتها، هي لحظة انتصارٍ للقوة الجماهيرية التي أثبتت أن السياسة سلاحٌ في يدها، لا ضدها.