مقاطعة الدم: لماذا يجب أن تقاطع النساء صناديق القتلة


ليث الجادر
2025 / 10 / 30 - 01:28     

إنّ الدولة التي تطلب من النساء أن يصوّتن، هي ذاتها التي تُشرّع القوانين التي تسلبهنّ إرادتهنّ وكرامتهنّ، وتحوّل وجودهنّ إلى وظيفةٍ شكلية في مشهدٍ سياسيٍ ذكوريٍ مكتمل الأركان.
في العراق، تتكرّر الجرائم بحق النساء بوتيرةٍ تُفقد الفاجعة معناها، حتى غدت أخبار القتل والذبح والحرق والانتحار المزعوم تفاصيل عابرة في نشرات الأخبار. لم تعد الجريمة حدثاً صادماً، بل طقساً اجتماعياً مألوفاً، تتبدّل فيه الأسماء وتبقى الأسباب واحدة: “الشرف”، “الخلاف العائلي”، “الغيرة”، أو أي تسمية أخرى تُخفي الجريمة الحقيقية — وهي وجود منظومة تشرعن سفك الدم الأنثوي وتمنحه غطاء العادات والدين.

آخر هذه الجرائم مقتل الطبيبة زياد طارق على يد شقيقها، جريمة كشفت بوضوح أن الدم الأنثوي في هذا البلد يُهدر ضمن هندسة اجتماعية–سياسية متكاملة تبدأ من البيت، مروراً بالعشيرة، وانتهاءً بالمحكمة. القاتل لا يختبئ، والدولة لا تبحث، لأن النظام بأكمله يعرف القاتل مسبقاً، ويميز بين دمٍ مباحٍ ودمٍ محرّم.

فالدولة التي تدّعي المدنية، هي ذاتها التي أقرّت قانون الأحوال الشخصية الجعفري، قانونٌ لم يهبط من فراغ، بل كُتب في أروقة المرجعيات الدينية التي قررت أن تحتكر تعريف المرأة، وتعيد إنتاجها ككائنٍ ناقص الولاية، محدود الوعي، مؤتمنٍ على الطاعة فقط.
القانون الجعفري يختزل المرأة إلى “موضوع فقه”، ويحوّل الولاء والطاعة إلى قاعدة إلزامية، ويبيح زواج الطفلة ويحد من حقوقها في الحضانة والميراث، ويجعل العدالة مرهونة بالولي لا بالضمير أو بالعقل. هذا القانون ليس مجرد نصٍّ تشريعي، بل هو بيانُ ولاءٍ رسمي من الدولة للهيمنة الذكورية الدينية، وإعلانٌ واضحٌ أن السلطة لا ترى في النساء مواطناتٍ بل “رعايا” في مملكة الذكور.

وفي القرى والأرياف، حيث يتقاطع الدين مع العشيرة، تُجبر النساء على المشاركة في الانتخابات بأوامر الأزواج والشيوخ، لا حباً بالوطن ولا إيماناً بالسياسة، بل خضوعاً لأمرٍ فوقيّ يتزيّن بعبارات “الواجب” و“الانتماء”.
المشاركة هنا ليست اختياراً بل طقساً من طقوس الطاعة، تُقاد فيه النساء كما تُقاد القوافل إلى صناديق الاقتراع، لتجميل العملية الانتخابية كما يُجمَّل وجه الدين بورعٍ مزيف. الدولة تعرف هذا جيداً، وتحتاجه، لأن حضور النساء في الصور أسهل من حضورهن في القرار.

في بلدٍ كهذا، لا تُقاس مدنية الدولة بوجود دستور، بل بقدرتها على حماية المرأة من التشريع الذي يقتلها ببطء، ومن المجتمع الذي يرفع شعار الشرف ليُبرّر الاغتيال، ومن الدين الذي حُوِّل إلى وثيقة إذعان جماعي.
إنّ مقاطعة النساء للانتخابات ليست فعلاً سلبياً أو انسحابياً، بل إعلاناً وجودياً ضدّ المنظومة كلها: ضدّ الدولة التي تطبّق إرادة المرجعيات، وضدّ المجتمع الذي يصفّق لذكورته، وضدّ القوانين التي تصادر الجسد والقرار.

المقاطعة النسوية هنا هي رفض المشاركة في تمثيلٍ زائف، ورفض التصويت لمن يعتبر المرأة مكمّلاً لا مواطنة. هي فعل سياسي من نوع آخر، فعل يبدأ من الوعي بالاستعباد، ويمتد ليكشف تناقض الدولة التي تقتل المرأة باسم القانون، ثم تطلب منها أن تُشرعن وجودها بالتصويت.
إنها مقاطعة الدم — لا احتجاجاً على مرشحٍ أو حزبٍ، بل على نظامٍ يرى في المرأة وسيلةَ دعايةٍ انتخابية، لا شريكاً في الوجود.