إرادة لا تُقهر: انتصار روح غزة على عمارة الإبادة الجماعية
سعيد مضيه
2025 / 10 / 27 - 14:33
"يدرك الغزيون أن حرب إسرائيل كانت في نهاية المطاف محاولة لتدميرهم كبشر – لتبديد الروح، تشويه الثقافة، تأليب بعضهم على بعض، وفي نهاية الأمر استئصال الجوهر الأساس لفلسطينيتهم". يقيّم الدكتور رمزي بارود صمود الغزيين تحت وطأة الإبادة الجماعية.
على مدار العامين الماضيين، هيمنت غزة بلا انقطاع على خوارزمياتي لوسائل التواصل الاجتماعي، وخاصةً أصوات الغزيين العاديين، مُظهرةً مزيجًا من المشاعر المتمحورة حول مبدأين اساسيين: الحزن والتحدي.
لطالما ميّز الحزن الحياة في غزة لسنوات عديدة، نتيجةً للحروب الإسرائيلية المتتالية، والحصار المتواصل، والقصف المُعتاد. إلا أن العامين الماضيين، اللذين اتسما بالإبادة الجماعية والمجاعة، أعادا تعريف هذا الحزن بطريقة تكاد تكون غير مفهومة للفلسطينيين أنفسهم.
نعم، لقد عانت فلسطين من مجازر عديدة قبل النكبة، وأثناءها، ومنذ ذلك الحين - التدمير المأساوي للوطن الفلسطيني. لكن تلك المجازر كانت في العادة عرضية، تميزت كل منها بظروف تاريخية محددة. كل منها مُدمج في النفسية الجماعية الفلسطينية كدليل على الوحشية الإسرائيلية، ولكن أيضًا كدليل على الصمود الدائم لشعب.
نشأتُ في مخيم للاجئين في غزة حيث كنا نُحيي ذكرى كل مجزرة بالمسيرات والإضرابات العامة والتعبيرات الفنية. عرفنا الضحايا وخلدناهم من خلال الهتافات والكتابات السياسية والشعر وما شابه.
تغير كل ذلك بصورة جذرية خلال حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على غزة في العامين الماضيين. في يوم واحد- 31 أكتوبر/تشرين الأول 2023- قتل الجيش الإسرائيلي 704 فلسطينيين، منهم 120 في مخيم جباليا للاجئين وحده. قنابل منفردة كانت ستبيد المئات بضربة واحدة، غالبًا في المستشفيات أو ملاجئ اللاجئين أو مدارس الأمم المتحدة. كانت المجازر تحدث كل يوم، في كل مكان.
لم يكن هناك وقتٌ للتأمل في أيٍّ من هذه المجازر، أو للدعاء للضحايا، أو حتى لدفنهم بالكرامةٍ اللائقة. كل ما استطاع الغزيون فعله هو محاولة التشبث بالحياة، ودفن أحبائهم في مقابر جماعية، واستخدام أيديهم العارية لاستخراج الجرحى والقتلى من تحت ألواح الخرسانة الضخمة وجبال الأنقاض. لا يزال الآلاف في عداد المفقودين. قُتل وجُرح حوالي ربع مليون غزّي.
سيستمر العدد في الارتفاع، ويتفاقم حجم الدمار، حتى في الوقت الراهن بعد أن انخفض معدل القتل. ولكن لماذا إذن، لا تزال صفحاتي على مواقع التواصل الاجتماعي تُظهر الفلسطينيين يحتفلون علنًا بانتصارهم؟ لماذا يواصل أطفال غزة، رغم هزالهم وإرهاقهم بسبب المجاعة، أداء رقصات الدبكة التقليدية؟ ماريا حنون، ابنة الخامسة، وواحدة من كثيرين تـركوا تأثيرا في غزة، لماذا تواصل إلقاء أشعار محمود درويش وإرسال رسائل نارية إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تقول أن غزة لن تُهزم أبدًا؟
القول بأن "بنية الغزيين مغايرة " تبخيس فظيع. كرست السنوات العشرين الماضية أبحاثا أكاديمية حول تاريخ شعب فلسطين، مع التركيز بشكل كبير على غزة، وما زلت أجد إرادتهم الجماعية مثيرة للغبطة؛ يبدو أنهم اتخذوا بوعي قرارًا مشتركًا: معايير هزيمتهم أو انتصارهم منفصلة تمامًا عن تلك التي تقيم بها وسائل الإعلام في تغطيتها للحرب.
هذه المعايير متجذرة في المقاومة كخيار أساسي. القيم الأساسية مثل الكرامة والعزة والصبر، من بين قيم أخرى، هي المعايير التي تحكم بها غزة على أدائها. بهذه المعايير العميقة الجذور، انتصر شعب القطاع وقد كابد الإبادة الجماعية والمجاعة في هذه الحرب.
نظرا لتجاهل هذه القيم في الغالب أو إساءة تفسيرها لدى تغطية الحرب، فقد وجد الكثيرون رد فعل غزة على وقف إطلاق النار، استجابة مربكة من سرور وحفاوة لا مثيل لهما. كان ساطعا حقا مشهد الأمهات ينتظرن بحفاوة كبيرة إطلاق سراح أبنائهن في خان يونس، جنوب غزة، هتافات مريرة وزغاريد وتصفيق في آن معا . إحدى الأمهات أوضحت بدقة المفارقة لأحد المراسلين: الدموع من أجل الأبناء والبنات الذين صرعوا في الحرب، والزغاريد من أجل المفرج عنهم.
على كل حال يندر ان تدرك أنباء الميديا تعقيدات نموذج نجاة غزة. خلص البعض، بمن فيهم المحللون العسكريون الإسرائيليون، إلى أن بنيامين نتنياهو قد خسر الحرب لأنه فشل في تحقيق أي من أهدافه المعلنة. ويتحدث آخرون عن نوع من النصر الإسرائيلي لمجرد أن إسرائيل تمكنت من محو غزة بأكملها تقريبًا وقطاع كبير من سكانها.
يستخدم كل جانب الأرقام والحقائق لدعم ادعاءاته؛ مع ذلك، ينظر الفلسطينيون في غزة إلى هذا الوضع بأسلوب مغاير بصورة جذرية؛. يدرك الغزيون أن حرب إسرائيل كانت في نهاية المطاف محاولة لتدميرهم كبشر – لتبديد الروح، تشويه الثقافة، تأليب بعضهم على بعض، وفي نهاية الأمر استئصال الجوهر الأساس لفلسطينيتهم
يحتفل الغزيون تحديدًا لأنهم يعلمون أن إسرائيل قد فشلت. بزغت الأمة الفلسطينية بهوية عميقة الجذور؛ سواء في غزة أو في أي مكان آخر. الطفل الذي يغني للشهداء، شغيلة الدفاع المدني يرقصون الدبكة لرفاقهم الراحلين، والمرأة التي تستخدم حطام دبابة ميركافا الإسرائيلية المدمرة لنشر غسيلها - هذه الصور جميعا تتحدث عن أمة يوحدها حبها للحياة والتزامها الشديد بقيم مشتركة، قيم الشجاعة والشرف والمحبة.
لدى محاولة الوصول الى خلاصة أكثر دقةً وعقلانية، انتهى بعض المحللين إلى أن إسرائيل لم تنتصر في الحرب، وأن الفلسطينيين لم يُهزموا. وحيث ان بالإمكان تقدير هذه المقاربة المتوازنة ضمن شروط القراءة الاستراتيجية لوقف إطلاق النار، إلا أنها تظل خاطئًة تمامًا لدى تفهمها في سياق الثقافة الشعبية الفلسطينية. الناس العاديون يرون البقاء والاستمرارية وتأكيد الذات أبرز علامات النصر على إسرائيل، الدولة التي لا تتردد في اللحوء الى الإبادة الجماعية لتحقيق مكاسب سياسية مؤقتة. ببساطة جوهر انتصارهم يكمن في هذا: بقاؤهم.
...............................
أصدرمزي بارود ستة كتب. سيصدر كتابه القادم "قبل الطوفان" عن دار نشر "سفن ستورز برس". ومن بين كتبه الأخرى "رؤيتنا للتحرير"، و"كان والدي مقاتلًا من أجل الحرية"، و"الأرض الأخيرة".
موقعه الإلكتروني https://www.ramzybaroud.net