صبي فلسطيني في التاسعة من عمره وقف على بُعد مسافة, جندي إسرائيلي جثا على ركبتيه وأطلق النار عليه فأرداه قتيلاً


جدعون ليفي
2025 / 10 / 26 - 09:47     

تغطي سريرا لافتةٌ كبيرة تحمل صورة صبي يرتدي بدلة رياضية زاهية الألوان. عند رأس السرير حقيبةٌ مدرسية زرقاء جديدة، وعند قدميه ثوبٌ أبيض. تقف امرأةٌ هناك تبكي بحرقة، عيناها معلقتان بصورة ابنها. لا عين جافة حولها.
ذلك السرير كان لمحمد الحلاق، الطفل البالغ من العمر تسع سنوات، تلميذ الصف الرابع. تلقّى حقيبته الجديدة في اليوم الذي قُتل فيه. أما الثوب الأبيض فهو ما ارتداه أثناء صلاة الجمعة في مسجد القرية. المرأة الباكية إلى جانب السرير هي علياء، والدته البالغة من العمر 33 عاماً، أم لأربعة أطفال، أحدهم هو الفتى القتيل.
في يوم الخميس، السادس عشر من أكتوبر، أطلق جندي من جيش الاحتلال الإسرائيلي النار على الصبي وقتله بينما كان يقف بهدوء على مسافةٍ من القوة. في مقطع فيديو التقطه أحد المارة، يظهر للحظة قصيرة في طرف الصورة، صبي صغير يرتدي قميصاً أزرق، قبل ثوانٍ من مقتله.
أطلق الجنود عشرات الطلقات في الهواء لتفريق الأطفال الذين كانوا يلعبون كرة القدم في ملعب المدرسة الثانوية للبنات القريبة. فر الأطفال مذعورين. محمد هرب أيضاً إلى الشارع ووقف بجانب جدار حجري، مكتوف اليدين على صدره. يبدو أنه اعتقد أنه لم يعد هناك ما يدعو إلى الفرار؛ فالجنود كانوا بعيدين، والشارع هادئ.
لكن أحد الجنود قرر "تلقين الصبي درساً". ووفقاً لشهادات عيان تحدثت إليهم صحيفة هآرتس، جثا الجندي على ركبتيه، وصوّب سلاحه، وأطلق رصاصة واحدة. أصابت الرصاصة محمد في خاصرته اليمنى وخرجت من اليسرى بعدما مزّقت شرايينه وأعضاءه الحيوية. لم يكن أمامه أي فرصة للنجاة. خطا خطوة أو اثنتين قبل أن ينهار ويحاول الزحف على الأرض، ثم توقّف عن الحركة.
بعد نحو ساعة ونصف أُعلن عن وفاته في المستشفى. كان محمد الطفل الثالث لعائلة الحلاق، وهي عائلة فقيرة تسكن قرية الريحية النائية، جنوب الخليل.
لم يكن لدى جيش الاحتلال أي سبب لاقتحام القرية، فضلاً عن قتل طفل. إنها حالة أخرى من انتقال نار الحرب على غزة إلى الضفة الغربية، حيث بات "ما يُسمح هناك يُسمح هنا أيضاً" — القتل لمجرد القتل، حتى للأطفال الذين لم يبتكر الشيطان بعد وسيلة للثأر لدمهم، كما كتب الشاعر.
رد المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي على استفسار هآرتس بجملةٍ مألوفة: «الحدث معروف وهو قيد الفحص من قِبل وحدة النيابة العسكرية». جملة واحدة كانت كافية على ما يبدو لتغطية «الواجب الأخلاقي» تجاه مقتل طفل بريء. وبعد عام أو عامين، سيُغلق الملف «لعدم وجود مصلحة عامة».
أما الجندي — فماذا سيحلّ به؟ هل سيتذكّر الطفل الملاك الذي قتله بدمٍ بارد؟ هل سيتذكّره حين يصبح أباً لطفلٍ في مثل عمره؟ هل سيزوره في أحلامه؟ في كوابيسه؟ هل يدرك حجم المأساة التي أنزلها بهذه العائلة البائسة؟ أم أنه نسي الأمر برمّته؟ في الواقع، لم يُستدعَ حتى للتحقيق. قتل طفلٍ صغير كهذا لا يعني شيئاً بالنسبة لجيش الاحتلال، وربما لا يعني شيئاً حتى للجندي الذي ضغط الزناد.
قال شهود عيان إن الجندي رفع ذراعيه بعد إطلاق النار في إيماءة بدت كأنها فرح، وانضمّ إليه رفاقه في مظاهر البهجة. ثم أطلقوا قنابل الغاز على بعض السكان الذين حاولوا إنقاذ الطفل قبل أن يغادروا بعد دقائق قليلة.
يعيش في قرية الريحية نحو سبعة آلاف شخص. الطريق إليها متعرّجة بسبب كثرة الحواجز المهجورة التي انتشرت خلال العامين الماضيين منذ اندلاع الحرب في غزة. للوصول إلى هناك يجب المرور عبر شوارع مخيم الفوّار للاجئين، وهو بدوره شبه مغلقٍ عن العالم.
يجلس الوالدان في خيمة العزاء المقامة بجانب منزلهما. الأب، بهجت (38 عاماً)، عمل لسنواتٍ في مشاريع بناء داخل إسرائيل، ويعمل الآن في سوبرماركت بأحد المخيمات قرب رام الله. بُعد المسافة وكثرة الحواجز تجبره على البقاء في المخيم طيلة الأسبوع والعودة فقط في عطلة نهاية الأسبوع.
يقول بهجت إن رحلة الرعب التي خاضها للوصول إلى ابنه بعد سماعه أنه جُرح استغرقت ثلاث ساعات. في مجموعة واتساب لأهالي القرية شاهد مقطعاً يُظهر شقيقه وهو يحمل محمد إلى سيارته، ينزف من خاصرته ورأسه متدلٍ، فعرف أن ابنه لن ينجو. ثلاث ساعاتٍ مضت قبل أن يرى الجثمان؛ فقد اضطر إلى الانتظار أكثر من ساعة عند حاجز "الكونتينر" الذي يقسم الضفة الغربية إلى نصفين، بينما كان الجنود يتفحصون السيارات ببطء كعادتهم.
في ذلك الصباح خرج محمد من منزله برفقة شقيقته سيلا (6 سنوات) ليُوصلها إلى مدرسة البنات المجاورة لمدرسته. بعد انتهاء الدوام اصطحبها إلى البيت كعادته، وكان فخوراً بحقيبته الجديدة وعلبة أقلامه التي حصل عليها مع زملائه هديةً من منظمة "اليونيسف"، وقد طُبع شعارها عليها.
ترينا والدته تلك الحقيبة. دفاتره وكتبه لا تزال بداخلها، بينها دفتر الحساب الذي كتبت فيه المعلّمة ملاحظاتٍ حمراء في آخر يوم من حياته. في علبة أقلامه زجاجةُ عطرٍ صغيرة كان يستخدمها بعد ارتداء ثيابه البيضاء لصلاة الجمعة. تمرّر علياء أصابعها على الزجاجة الصغيرة كما لو كانت ترفض أن تفارقها.
بعد الغداء، خرج محمد مع أصدقائه إلى ملعب مدرسة البنات التي تبعد نحو كيلومتر ونصف عن منزله، ليلعبوا كرة القدم كعادتهم. كانت الساعة نحو الثانية والنصف ظهراً حين غادر، ولم يعد بعدها. في تلك الأثناء، كانت والدته في مدينة يطّا المجاورة للتسوق مع والدها.
حوالي الخامسة مساءً، اقتحمت سيارتان جيب عسكريتان القرية فجأة. كان الأطفال ما زالوا في الملعب. أطلق الجنود النار في الهواء لتفريق السكان، كما لو كانوا يطاردون كلاباً شاردة. صار ذلك أمراً اعتيادياً — فالجيش يداهم القرية ثلاث مراتٍ أسبوعياً في المتوسط، عادةً ليلاً، وهذه المرة جاء في وضح النهار.
أُفرغت الشوارع. تفرّق الأطفال. هرب محمد معهم ووقف قرب الجدار. كان الجنود في الوادي أسفل القرية، على بُعد نحو 250 متراً. صرخوا وأطلقوا النار في الهواء، ثم جثا أحدهم على ركبتيه على ما يبدو وأطلق النار على محمد.
أطلق الجنود بعد ذلك أربع قنابل غاز على المارة، وتركوا الطفل ينزف ثلاث أو أربع دقائق قبل أن يُسمح بإجلائه.
أسرع عمه، الذي يسكن بالقرب وشهد ما حدث، إلى الشارع وحمل محمد بمساعدة ابنه إلى السيارة. أظهر مقطع فيديو العم وهو يضع ابن أخيه الذي بدا بلا حياة في المقعد الخلفي. قال العم – الذي رفض ذكر اسمه خوفاً – إنه وجد نبضاً ضعيفاً في عنق الصبي. أراد نقله بسرعة إلى مستشفى يطّا الحكومي، لكنه رأى سيارتي الجيب العسكريتين تسيران أمامه ببطء، فخشي أن يوقفوه أو يخطفوا محمد، فاختار طريقاً التفافية ضاعفت مدة الرحلة إلى ثلاثين دقيقة بدلاً من خمس عشرة.
عندما وصل إلى مستشفى أبو حسن القاسم في يطّا، ظنّ أن قلب ابن أخيه قد توقف. حاول الأطباء إنعاش محمد ونقلوه إلى غرفة العمليات، لكن الأوان كان قد فات. في تلك الليلة، اتصل به عنصر من جهاز "الشاباك" محذّراً العائلة من تنظيم أي مظاهرات خلال الجنازة.
كان بهجت، والد محمد، قد علم عبر مكالمة من شقيقه أن ابنه جُرح، لكن حين رأى الفيديو في مجموعة واتساب أدرك أن حالته حرجة. يقول إنه دخل في حالة صدمة. تطوّع سكان من بلدة إذنا لإيصاله إلى المستشفى، ووصل في الثامنة والنصف مساءً بعد رحلةٍ مروعة.
أما علياء، فكانت ما تزال في يطّا. عندما تلقى والدها مكالمة، شعرت بقلقٍ شديد. وحين خبأ الهاتف في جيبه، ازداد خوفها. فتحَت هاتفها هي الأخرى، فرأت الفيديو الذي يُظهر ابنها يحتضر وهو يُحمَل إلى السيارة.
في المستشفى لم يسمح لها الأطباء بدخول الغرفة، وقالوا إن إصابته طفيفة. عندما طلبوا تبرعاً بالدم، ظنّت أن الأمل ما زال قائماً. بعد فترة، أبلغها الأطباء أن الرصاصة مزّقت أوعيةً دموية رئيسية، وأن محمدها قد فارق الحياة. كان قد قال لها يوماً إنه يريد أن يصبح طبيب قلبٍ حين يكبر.
دُفن محمد في تلك الليلة في مقبرة القرية.
الآن، تجلس علياء في غرفة ابنها تبكي، وإلى جانبها ابنها المراهق وجدي، حزينٌ هو الآخر. كل ما تريده اليوم هو أن يُعاقَب الجندي الذي أطلق النار على ابنها بما يستحق. أما أطفالها الآخرون، فلم يعودوا ينامون في أسرّتهم المجاورة لسرير محمد. إنهم خائفون.