الوحدة الوطنية الفلسطينية (3 من 3)


نهاد ابو غوش
2025 / 10 / 23 - 02:51     

نهاد أبو غوش
شكلت الفترة الطويلة من أواخر ستينات القرن العشرين وحتى أواخر الثمينات، اي منذ دخول فصائل المقاومة المسلحة لمنظمة التحرير الفلسطينية وإعادة تشكيل المنظمة وحتى اندلاع الانتفاضة الوطنية الكبرى (التي عرفت بانتفاضة الحجارة في ديسمبر 1987) فترة ذهبية في حياة منظمة التحرير كرستها كقائدة لنضال الشعب الفلسطيني، وكجبهة وطنية عريضة تضم كل أو معظم الفصائل الوطنية المناضلة، فعلى الرغم من الهزات التي تعرضت لها المنظمة وأهمها المواجهات مع النظام الأردني وهزيمة القوى وخروجها من الساحة الأردنية على اثر أحداث جرش وعجلون في العام 1971، ثم انخراط المنظمة في الحرب الأهلية الأردنية. ثم خروج قواتها من لبنان على اثر الاجتياح الإسرائيلي وحرب لبنان عام 1982، رغم ذلك فقد كرّست المنظمة نفسها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني عبر اعترافات متتالية من قبل الدول العربية، والقمم العربية المتلاحقة بدءا من قمة الرباط عام 1974. ثم اعترافات عدد كبير من الدول الاشتراكية ومعظم دول العالم الثالث. هذا الاعتراف العالمي الآخذ بالاتساع تزامن مع اعتراف شعبي فلسطيني قلّ نظيره، ليس من خلال انتخابات أو استفتاءات يصعب إجراؤها سواء تحت الاحتلال أو في بلدان الشتات، ولكن من خلال إقبال مئات آلاف الشباب الفلسطيني على الالتحاق بصفوف فصائل منظمة التحرير والنضال تحت راياتها، وتعرض عشرات الآلاف منهم للسجن والتنكيل والعقوبات، ثم انحياز قطاعات شعبية متلاحقة من نقابات واتحادات وجمعيات ومجالس بلدية وقروية، وممثلي القرى والعائلات والمخيمات. ثم كانت الفعالية الأبرز وهي الانتخابات البلدية في العام 1976، التي فاز ممثلو منظمة التحرير فيها جميعا، ثم هزيمة جميع محاولات ومشاريع اصطناع قيادات بديلة على الرغم من كل الإغراءات كما جاء عند هزيمة مشروع روابط القرى.
لم تكن مسيرة منظمة التحرير مفروشة بالورود والتسهيلات خلال العقدين اللذين نمت فيهما وكرست شرعيتها إلى حد قبولها كعضو مراقب في الأمم المتحدة، ودعوة رئيسها ياسر عرفات إلى إلقاء خطابه الشهير (خطاب البندقية وغصن الزيتون)، بل شهد العقدان اللذين نتحدث عنهما كثيرا من الأزمات والمواجهات الداخلية أبرزها الصراع حول ما عرف بالبرنامج المرحلي ( برنامج النقاط العشر) بين العامين 1974 و1979، وهو الصراع الذي أدى إلى تشكيل جبهة الرفض بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثم أزمة الانشقاق الداخلي بعد الخروج من بيروت عام 1983، والذي أدى إلى انشقاق حاد في حركة فتح وخروج جكماعة فتح الانتفاضة، وتشكل تيار فلسطيني معارض لقيادة عرفات ليس بالسياسة ومقاطعة الهيئات فقط ولكن بالسلاح كما حصل في أحداث طرابلس العام 1983 من قبل تنظيمات القيادة العامة والصاعقة وفتح الانتفاضة وهي تنظيمات موالية في حينها للمحور السوري.
تمكن المنظمة وقيادتها من تجاوز كل هذه العقبات والأزمات بفعل الالتفاف الشعبي أولا، وبفعل ما يمكن أن نسميه "شرعية المؤسسة" وهي شرعية تمنح قيادة المنظمة قوة سياسية وقانونية وتمثيلية مدعومة بالقدرات التنظيمية والمالية. ولكن وسط هذه النجاحات والإنجازات كانت عوامل هدم وتآكل أخرى قد بدأت تنال من مكانة المنظمة، وتضعف من طابعها الكفاحي، وتبني حواجز سلطوية وبيروقراطية بينها وبين شعبها وبخاصة مع مغادرة قيادة المنظمة الساحات التي كان يعيش فيها جمهور فلسطيني كان وجود المنظمة في وسط صفوفه يضعها تحت أشكال عديدة من الرقابة الشعبية، ويمكن لنا أن نعدد جملة من الأسباب التي أدت إلى إضعاف الروح الكفاحية للمنظمة وفصائلها ومن هذه الأسباب:-
- الطابع الرسمي شبه الدولتي للمنظمة وضعها تحت تاثيرات السياسات الرسمية العربية وأدواتها الأمنية وإغراءاتها المالية.
- اتساع وتمدد البنى البيروقراطية للمنظمة وفصائلها من قبيل سياسات التجييش والتعبئة والتفريغ لآلاف الكوادر في الأرض المحتلة وفي الشتات.
- هيمنة القيادة المتنفذة واستفرادها بالمقدرات والقرارات السياسية والمالية والإدارية.
- انتشار أمراض الجمود والتكلس والممحسوبية وغياب اشكال الرقابة والحياة الديمقراطية عن هيئات المنظمة.
- ميل القيادة الرسمية للتسويات السياسية وهو ما بدأ بمغازلة قوى ودول ليبرالية أوروبية، وتوج بانفتاح أميركي على المنظمة تمثل بلقاء السفير الأميركي في تونس بيليترو مع ممثلي المنظمة. حصيلة هذه اللقاءات ادت غلى تراجعات مهمة أبرزها قيام المنظمة رسميا ب"نبذ الإرهاب" وهو ما ظن قادتها أنه يؤهلها للعب دور سياسي يمكنها من تحصيل بعض الحقوق الوطنية.
- غياب المعارضة الحقيقية، وسيادة منطق الصفقات والمحاصصة بين قيادة المنظمة والفصائل الأخرى ما جعل هذه الفصائل معنية بتحصيل حقوقها وامتيازاتها (المالية والإدارية والتنظيمية) أكثر مما هي معنية بتعزيز خطها السياسي والانتصار لمواقفها، وقد برع رئيس المنظمة ياسر عرفات في استغلال التناقضات الفلسطينية الداخلية من خلال ضرب الفصائل الأخرى ببعضها البعض، ودفعها جميعا للتنافس على أدوار الوصافة وحصص الكوتا.
هذه هي الظروف التي سبقت وترافقت مع الانتفاضة الكبرى التي بدأت تبرز فيها قوى جديدة أهمها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، وهي الظروف التي سبقت وترافقت كذلك على حدثين بالغي الأهمية هما حرب الخليج الأولى وتحطيم العراق، وانهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية التي كانت تمثل سندا رئيسيا للنضال الفلسطيني ومنظمة التحريرن فإذا أضفنا هذين الحدثين ونتائجهما المأساوية، إلى ظروف التآكل الداخلي وغياب الإصلاح وتفشي الترهل البيروقراطي، تكون كل الظروف لاتفاق أوسلو قد نضجت تماما.
-