النتوء الرأسمالي – الاقتصاد الرقمي داخل جسد الرأسمالية وعلاقته بالمجتمعات التابعة


ليث الجادر
2025 / 10 / 16 - 14:13     

لم يكن ظهور الاقتصاد الرقمي في مراكز رأس المال العالمي إيذانًا ببزوغ طور جديد من أنماط الإنتاج، بل مثّل امتدادًا داخليًا لجسد الرأسمالية الإنتاجية نفسها، نتوءًا ينمو في قلبها ويتغذى من تراكمها المادي. كثير من القراءات السطحية تعاملت مع الرقمنة بوصفها بديلًا للاقتصاد الصناعي، أو مرحلة انتقالية نحو «رأسمالية رقمية» قائمة بذاتها. غير أن التحليل الماركسي البنيوي يوضح أن ما نشهده ليس انقطاعًا تاريخيًا، بل شكلًا من أشكال إعادة تشكيل أدوات التراكم داخل نفس البنية، مع احتفاظ هذه الأخيرة بجوهرها الطبقي وهيمنتها المركزية.

النتوء الرأسمالي: تعريف وتحليل بنيوي

النتوء الرأسمالي هو الامتداد الداخلي الذي يتغذى على التراكم المادي ويعيد تشكيله. إنه ليس عضوًا مستقلًا، بل بنية فرعية طفيلية تنشأ داخل الرأسمالية الصناعية لتعيد توزيع الفائض بطريقة أكثر كثافة وشمولًا. الاقتصاد الرقمي لا يعمل خارج نطاق الاقتصاد المادي السلعي، بل يستند إليه كشرط وجود، ويستمد منه القيمة ويعيد إنتاجها داخل مراكز رأس المال. المنصات الرقمية، البنى الشبكية، والوسائط التقنية الكبرى ليست أدوات محايدة، بل عناصر عضوية في جهاز السيطرة الطبقي داخل المركز. وهي تُستخدم لتكثيف عمليات التراكم، وإعادة ترتيب خرائط القيمة داخليًا، وتحقيق مستويات غير مسبوقة من الاحتكار المعرفي والتكنولوجي.

بهذا المعنى، يمكن النظر إلى النتوء الرأسمالي بوصفه الامتداد الأحدث لذكاء البنية الرأسمالية بلا عقل، أي للـ«بلوب» كما تم تحليله سابقًا. فهو ليس قرارًا واعيًا من جهة محددة، ولا نتيجة تخطيط مركزي، بل ثمرة من ثمار قدرة البنية الشبكية للرأسمالية في مراكزها على إعادة توجيه تدفقات القيمة وفق شروط جديدة، دون أن تغيّر جوهرها. فالنتوء الرقمي هو أحد تجليات هذا الذكاء البنيوي: توسّع غير عضوي، طفيلي، يندمج في الجسد ليعيد تشكيله من الداخل، ويخدم استمرار الهيمنة الطبقية والإمبريالية نفسها بوسائط مغايرة. إن إدراك هذا الترابط هو شرط لفهم المرحلة الراهنة من الرأسمالية بوصفها لا تمر بتحول نوعي نحو «ما بعد»، بل بعملية تعميق وتكثيف لبنيتها عبر أدوات جديدة.

النتوء الرأسمالي والمجتمعات التابعة

في سياق العلاقة بين مراكز رأس المال والمجتمعات التابعة، يلعب النتوء الرأسمالي دورًا حاسمًا في إعادة إنتاج التبعية على أسس رقمية–معرفية. فالدول التابعة لا تشكّل مراكز إنتاج للمعرفة أو التقنية الرقمية، بل تتحول إلى أسواق مستهلكة ومنصات بيانات مفتوحة تُسحب منها القيمة الخام على شكل تدفقات معلومات، دون أن تمتلك أي سيطرة حقيقية على آليات إنتاجها أو توجيهها. هذه البنية التبعية الرقمية تعيد إنتاج علاقات السيطرة الكولونيالية في شكل محدث: فبدلًا من نهب المواد الأولية أو السيطرة العسكرية المباشرة، يجري الآن تثبيت التبعية من خلال احتكار البنية التحتية الرقمية، وتوجيه تدفقات البيانات، وفرض المعايير التقنية.

النتوء الرقمي يساهم في إعادة ترسيم العلاقة بين المركز والأطراف عبر قنوات غير تقليدية. فالشركات والمنصات الكبرى، المدعومة من الدول المركزية، تؤدي وظيفة مزدوجة: داخل المركز، تُعيد توزيع الفائض وتكثف السيطرة الطبقية؛ وخارجه، تُعيد إنتاج التبعية البنيوية من خلال إدماج الاقتصادات الطرفية في شبكات رقمية لا يملكون مفاتيحها. بذلك يصبح الاقتصاد الرقمي، بوصفه نتوءًا داخل جسد الرأسمالية، أداة لتعميق التقسيم الدولي للعمل وليس تجاوزه. إنه لا يفتح مجالًا لتحرر الأطراف، بل يُقفل إمكانيات استقلالها البنيوي عبر ربطها الدائم بالمركز من خلال قنوات رقمية معرفية محكمة.