-غزة: دورة المأساة بين الهيمنة الدولية والسلطة المحلية والأيديولوجيا الدينية-


ليث الجادر
2025 / 10 / 13 - 21:17     

هكذا، وبرغبةٍ صريحة من سلطة الطغيان الرأسمالي العالمي، تُنصَب مراسيم وقف المجزرة بحق الفلسطينيين؛ تلك المجزرة التي لم تكن سوى حلقةٍ مدروسة ضمن سلسلة إعادة إنتاج السيطرة. فقد مهّدت لها حماس، بوصفها فاعلًا محليًا مرتبطًا بشبكات تمويل خارجية، لتُطلق الآلة العسكرية الإسرائيلية واحدة من أكثر عمليات التدمير المنهجي هوسًا، رغم امتلاكها القدرة التقنية والسياسية على حسم المواجهة مع حماس خلال أسابيع قليلة.

أما اللوحة السريالية التي شاركت فيها القوى الكبرى والإقليمية، والتي تمحورت حول مقولة أن القضاء على حماس ليس أمرًا سهلاً، فقد كانت غطاءً بلاغيًا لتمرير عملية طويلة الأمد، تسمح لإسرائيل بإعادة تشكيل المجال الجغرافي–البشري في غزة بما يخدم استراتيجيتها الأمنية والاقتصادية، تحت لافتة “الدفاع عن النفس” و“تحرير الرهائن”. في هذا السياق، تحوّل نصف السيناريو إلى فعل عسكري مباشر نفذته إسرائيل، فيما أُوكل النصف الآخر إلى المسرح السياسي والدبلوماسي، لإضفاء طابع “الشرعية الدولية” على ما هو في جوهره فعل استعماري عنيف يعيد ترتيب موازين الهيمنة.

غير أن هذه البنية الاستعمارية لا تعمل في فراغ؛ بل تجد في الأيديولوجيا الدينية للشعوب المستهدفة حليفًا غير معلن. فالشعوب المؤدلجة دينيًا مهيّأة، بحكم بنيتها الذهنية وتصورها الأسطوري للعالم، لتقبّل هذه السيناريوهات بوصفها قدرًا مقدّسًا لا يُقاوم. فهي تفسر القتل والدمار والتشريد باعتبارها أثمانًا واجبة لمكافأة أخروية موعودة، وترى في مئات الآلاف من ضحاياها قرابين طاهرة على مذبح فكرة ميتافيزيقية تَعِد بالحياة الخالدة.

هنا تتجلى الوظيفة الطبقية للأيديولوجيا الدينية: فهي لا تُحرّك الجماهير ضد الهيمنة، بل تُعيد إنتاج خضوعها في شكل طاعة طوعية، حيث تُحوَّل الهزيمة إلى بطولة روحية، والموت الجماعي إلى طقس خلاص، والعدوان إلى امتحان إيماني. بهذه الطريقة، يُفرّغ الفعل السياسي من محتواه المادي والطبقي، ليُعاد إدخاله في مدار الغيب والرمز، ويُعاد إنتاج الوضع القائم بوصفه حتميًا لا يقبل التغيير.

إننا هنا أيضًا أمام إشكالية قيمية وأخلاقية عميقة، تتعلق بكيفية تموضع هذه المجتمعات إزاء ما تتعرض له من كوارث. فطالما أن هذه المجتمعات تتعامل مع القتل والتدمير بوصفهما قدرًا إلهيًا ونِعمًا مؤجلة، وتستمر في الاصطفاف الواعي أو اللاواعي إلى جانب سلطاتها الإسلاموية وتنظيمات الإسلام السياسي التي تشكّل الامتداد المحلي للبنية الطبقية الحاكمة، فإن مطالبة الآخرين بالوقوف ضد من ينزل بهم هذا “الظلم” تصبح إشكالًا لا يُعالج بالخطاب الأخلاقي وحده.

ففي منطق التضامن الإنساني أو الأممي، يُفترض أن يكون المظلوم طرفًا فاعلًا في مقاومة وضعه، لا مُستسلِمًا له باسم “القدر”. لكن ما يحدث هو العكس: يتم تحييد المجتمع من خلال إعادة تأويل المأساة بمنطق ديني–غيبي، فتُفرَّغ المفاهيم السياسية والطبقية من مضمونها، ويُستعاض عنها بلغة الطقوس والابتلاء والثواب. بهذا الشكل، لا يُعاد إنتاج الخضوع فحسب، بل يُضفى عليه طابع أخلاقي وروحي يجعل من مقاومته وكأنها وقوف ضد “الإيمان” ذاته.

إن هذه الوضعية تجعل الخطاب السياسي الخارجي أو التضامن العالمي في مأزق مزدوج: فمن جهة، هناك آلة استعمارية–إمبريالية تمارس عدوانًا ممنهجًا، ومن جهة أخرى، هناك مجتمعات تُحوّل العدوان إلى قدرٍ مقدّس، وترى في سلطاتها الإسلاموية وكلاء شرعيين لهويتها ووجودها. وهكذا، يُحاصر أي تضامن مبدئي بين مطرقة القوة الاستعمارية وسندان الوعي المؤدلج الذي يمنع إمكانية تكوين جبهة مقاومة عقلانية وطبقية واعية.

في النهاية، تُفرغ فكرة “الظلم” من بعدها المادي لتصبح حالة وجدانية أو اختبارًا إلهيًا، بينما يُترك الواقع المادي على حاله، خاضعًا لعلاقات القوة نفسها، لا يتغير فيه شيء سوى شكل الشعارات التي تُرفع فوق الركام.

وجوهر مأساة غزة يكمن هنا بالضبط: في البنية السياسية لسلطة حماس ودورها الوظيفي في ضبط المجتمع الغزّاوي لحساب المنظومة الدولية. فحماس، على الرغم من خطابها “المقاوم” وشعاراتها الدينية الصاخبة، تمارس سلطة سياسية وأمنية مندمجة في منظومة الانضباط الاجتماعي التي يحتاجها النظام الدولي للإبقاء على الوضع القائم دون انفلات. فهي تحكم عبر مزيج من القمع الداخلي والتعبئة الأيديولوجية، وتُبقي المجتمع في حالة استنزاف دائم، دون أن تتيح تشكّل أي قوة طبقية أو مدنية قادرة على إنتاج بديل سياسي حقيقي.

بهذا المعنى، تتحول حماس إلى جهاز ضبط محلي، لا يختلف في جوهره عن أي سلطة تابعة أو وكيلة. فهي تدير المجال السياسي والاجتماعي بما يضمن استمرار التوازنات الإقليمية والدولية، وتؤدي وظيفة مزدوجة: من جهة، تُقدّم نفسها كقوة تحدٍ لفظي للمنظومة الاستعمارية، ومن جهة أخرى، تضبط المجتمع وتحول دون تشكّل أي فعل جماهيري مستقل خارج وصايتها الأيديولوجية. إنها تُمثّل النموذج الأوضح لتحوّل الإسلام السياسي من حركة احتجاج إلى سلطة وظيفية، تملأ فراغ الدولة دون أن تفتح أفق التحرر.

على المستوى الطبقي والاقتصادي، تخضع البنية الاجتماعية داخل غزة لهيمنة مزدوجة: فحماس لا تكتفي بضبط المجتمع سياسيًا، بل تفرض سيطرتها الاقتصادية عبر شبكات النفوذ، مثل احتكار الموارد، التحكم في اقتصاد الأنفاق، والهيمنة على الوظائف العامة والمساعدات. هذه الآليات تُبقي الطبقات الفقيرة في حالة استنزاف دائم، وتُحول الفعل الاقتصادي إلى أداة للسيطرة، بينما تُبقي البرجوازية المحلية متواطئة في النظام مقابل حماية مصالحها الجزئية، مما يعزز إعادة إنتاج الهيمنة الطبقية داخليًا.

وفي السياق الدولي، يُعاد إنتاج مأساة غزة بوصفها أداة وظيفية للمنظومة الإمبريالية العالمية: إذ تسمح بإبقاء القضية الفلسطينية في دائرة الصراع الرمزي، بينما يُترك الصراع الحقيقي على الأرض تحت سيطرة جهاز محلي، مؤدلج دينيًا، يضمن عدم خروج أي فعل جماهيري مستقل عن دائرة النظام الدولي، ويُحافظ على الوضع القائم دون المساس بمصالح القوى الكبرى.

وهكذا تتلاقى الآلة العسكرية الخارجية، الأيديولوجيا الدينية الداخلية، والهيمنة السياسية–الاقتصادية المحلية في تكوين دورة مأساوية مستمرة: كل عدوان خارجي يجد داخليًا تربة خصبة، وكل خضوع داخلي يُعاد إنتاجه في خطاب المقاومة، وكل ضحية تُحوّل إلى قرابين أيديولوجية تضمن استمرار التوازنات الدولية دون أي تغيير جوهري على الأرض.

وفي الخاتمة، تتجلى مأساة غزة في حلقة مفرغة من الهيمنة والتحكم: فالعنف الاستعماري الإسرائيلي الخارجي يُمارس وفق مصالح المنظومة الإمبريالية، والأيديولوجيا الدينية تُحوّل المأساة الإنسانية إلى قدر محتوم، بينما تتحكم سلطة حماس المحلية في المجتمع وتحافظ على الوضع القائم بوصفها وكيلًا وظيفيًا، ليس للحرية أو المقاومة، بل لإدامة التوازنات الدولية والهيمنة الطبقية الداخلية.

إن هذا التداخل بين القوى الخارجية، السلطة المحلية، والأيديولوجيا الداخلية يخلق منظومة مغلقة من الاستغلال والسيطرة، حيث يصبح الضحية محاصرًا بين المطرقة والسندان: بين آلة عسكرية خارجية تدمر جسده، وسلطة دينية وسياسية تدمر وعيه وامكانياته الجماعية، وبين أيديولوجيا تبرر له الموت والدمار بوصفهما “امتحانًا إلهيًا” أو “رحمة مؤجلة”.

من منظور نقد ماركسي، تكشف هذه المنظومة أن مأساة غزة ليست حادثًا عشوائيًا أو نتيجة سوء تقدير، بل هي وظيفة مركبة للبنية السياسية–الاقتصادية–الأيديولوجية التي تعيد إنتاج الهيمنة الإمبريالية، وتضمن استمرار الفقر والسيطرة المحلية، وتحوّل المقاومة الحقيقية إلى مجرد خطاب رمزي. وهكذا، يُصبح الصراع الفلسطيني نموذجًا حيًا على كيفية إعادة إنتاج الظلم ضمن المنظومة الدولية، وكيف يمكن للأيديولوجيا الدينية والسلطة المحلية أن تكونا أدوات مباشرة لإدامة الهيمنة والاستغلال، بدلاً من أن تكونا أدوات للتحرر.

الخلاصة الماركسية البسيطة: لن يتحرر الشعب الفلسطيني ما لم تتحلل هذه الدورة المركبة من السيطرة الخارجية، الهيمنة المحلية، والأيديولوجيا الغيبية التي تحاصر وعيه. وبغير تحليل طبقي واعٍ وتحرر شعبي حقيقي، تظل غزة فضاءً مأساويًا يُعاد إنتاجه مرة بعد مرة، ضحية لكل من القوى الكبرى وللفشل الداخلي في مقاومة الهيمنة البنيوية.