رأسمالية التعليم وإخصاء الوعي


عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 10 / 5 - 10:14     

​لا يمر يوم المعلم العالمي (الخامس من أكتوبر)، الذي تتبناه الدولة السودانية شكلياً، إلا كذكرى مُرّة تفضح التناقض الجوهري في وضع المعلم. فبينما تُختزل قضيته في خطابات "الفضل" والعرفان، تُسلخ عنه صفته كـ"عامل" ينتج أهم سلعة في المجتمع: الوعي البشري. هذه العملية ليست بريئة، بل هي آلية هيمنة تهدف إلى تحويل المعلم من فاعل سياسي في الصراع الطبقي إلى مجرد أداة تقنية في آلة الدولة البرجوازية. إن إخفاء الاستغلال المادي وراء حجاب التبجيل الأخلاقي هو ذروة التلاعب الأيديولوجي، مما يستدعي قراءة مادية جدلية تكشف تشيؤه وتحوله إلى سلعة منزوعة القيمة في اقتصاد السوق التابع.

​يكشف الوضع المادي للمعلم السوداني عن الوجه العاري للرأسمالية الطرفية، حيث يعيش أكثر من 85% من المعلمين تحت خط الفقر، وبلغ متوسط الراتب أقل من 50 دولارًا شهرياً، أي أن قوة عملهم لم تعد تُعادل حتى قيمة إعادة إنتاجها الحيوي. فالتدهور الاقتصادي هو تعمية طبقية مقصودة، تضمن بقاء هذه الشريحة الكادحة في وضع الضعف المادي، فالراتب الذي لا يكفي إعادة إنتاج القوة العاملة يتحول إلى أداة لإخضاعها. وهكذا يتحول الفقر من حالة اقتصادية إلى أداة سياسية لتفريغ الوعي من محتواه الثوري، مما يجعل نضالهم من أجل البقاء يطغى على نضالهم السياسي من أجل التغيير الجذري، وهو تحليل يتسق مع المنهج الماركسي الذي يربط بين البنية التحتية الاقتصادية والبنية الفوقية الأيديولوجية.

​إن المعلم السوداني لا يخضع لاستغلال قوة عمله كأي بروليتاري فحسب، بل يُجبر على المشاركة في إنتاج وتكريس الوعي الزائف الذي يُعيد إنتاج شروط استغلاله. إنه يعيش اغتراباً مزدوجاً: مغترب عن منتجه (الوعي النقدي) وعن ذاته ككائن ثوري في آن واحد، فهو لا يُستلب فقط من منتجه، بل يُستلب من قدرته على إنتاج الذات الثورية ذاتها. وهكذا يتحول المعلم من منتج للوعي إلى حارس لوعي زائف يُعيد إنتاج شروط استغلاله. ويُعد هذا التهميش المنهجي عبر خصخصة التعليم وتدهور المدارس الحكومية استراتيجية واضحة لسحب القوة الثورية من هذه الشريحة، وتحويلها من مثقفين عضويين (بالمعنى الغرامشوي) إلى بروليتاريا رثة مهمتها تلقين الرضوخ بدلاً من إشعال النقد.

​لم تعد الأزمة مجرد استغلال اقتصادي، بل تحولت إلى هجوم وجودي في ظل الحرب الحالية. فتشريد نصف مليون معلم ليس مجرد نزوح، بل هو تفكيك ممنهج لبنية إنتاج المعرفة وتدمير للقوة المنتجة للوعي الثوري ذاته. إن حرمان ملايين الأطفال من التعليم يضمن إعادة إنتاج دورة التخلف والتبعية، وهو ما يخدم المشروع الإمبريالي الذي يحتاج إلى أطراف جاهلة لضمان هيمنة المركز. فـتدمير البنية التحتية التعليمية (أكثر من 70% من المدارس خارج الخدمة) هو تدمير لوسائل الإنتاج الفكري، وتحويل المعلم من حامل لرسالة إلى لاجئ مشرد بلا وسيلة لإعادة إنتاج ذاته المادية أو الفكرية.

​لطالما كان المعلمون في قلب المعارك التحريرية في السودان، مما يؤكد طليعيتهم الطبقية. ففي انتفاضات ديسمبر، لم تكن نقابات المعلمين مجرد تجمعات مطالبية، بل كانت خلايا تنظيمية للثورة، وحاضنات للوعي الجمعي في الأحياء. وهذا الدور يؤكد الرؤية اللينينية التي ترى في النقابة نواة التنظيم السياسي للطبقة، وأداة لقلب علاقات الإنتاج. فلا يمكن لأي نضال مطلبي أن ينتصر دون أن يتحول إلى نضال سياسي يواجه جوهر السلطة الطبقية. لذا فالنضال من أجل الأجر العادل ليس منفصلاً عن النضال من أجل التعليم المجاني والعلماني، فكلاهما وجهان لمعركة التحرر من هيمنة رأس المال على الوعي والمادة.

​إن النضال من أجل قضية المعلمين يجب أن يكون نضالاً ضد التشيؤ برفع شعار "المعلم منتج للوعي، وليس سلعة"، ونضالاً ضد الاغتراب بالمطالبة بحق المعلم في المشاركة في وضع المناهج وإدارة المؤسسات التعليمية. ويجب أن يرتبط هذا النضال بمشروع الاشتراكية، عبر ربط مطالب الأجر العادل بمشروع مجانية التعليم وإلغاء خصخصة القطاع، لأنه لا تحرر حقيقي للمعلم دون تحرر كامل للمجتمع من قيد علاقات الإنتاج الرأسمالية. فجوهر الصراع حول التعليم هو الصراع حول من يملك الوعي ومن يحدد اتجاهه الطبقي. إن نضال المعلم السوداني هو جزء من النضال الأممي ضد رأسمالية التعليم وهيمنة رأس المال على الوعي البشري.

​"لا أحد يحرر أحداً، ولا أحد يحرر نفسه بنفسه، الناس يحررون أنفسهم في شراكة."
باولو فريري.

​النضال مستمر،،