تشرين: منتفضون بلا انتفاضة


ليث الجادر
2025 / 10 / 2 - 13:32     

اندلع حراك تشرين بوصفه انفجارًا اجتماعيًا غاضبًا، لكنه لم يتطوّر إلى انتفاضة ثورية مكتملة. الطابع العام كان عاطفيًا مباشرًا، أقرب إلى ردّ فعل على انسداد الأفق السياسي والاقتصادي، لا مشروعًا سياسيًا ناضجًا. وسرعان ما انقلب المسار من هدف التغيير الجذري إلى مطلب إصلاحي ضبابي: استبدال رأس السلطة.

لقد رفع التشرينيون شعار إسقاط الحكومة، لكنهم توجهوا بمطالبهم إلى ذات القوى التي ثاروا عليها، وكأنهم يصرخون في وجه النظام: "أيها أثَمون، اختاروا لنا قديسًا". هذا الانحراف من خطاب الثورة إلى خطاب الإصلاح جعل الحركة عُرضة للانقضاض والاحتواء.

ولم تُسفر التضحيات عن نتائج ملموسة. تراجع الصوت، وخبا الزخم، فيما واصلت حكومتا الكاظمي ثم السوداني النهج ذاته: فساد بنيوي، تبعية اقتصادية، عجز سيادي. هذه الاستمرارية تؤكد أن تشرين لم تملك مشروعًا سياسيًا يضمن استمراريتها، وأنها أُفرغت من مضمونها قبل أن تستكمل شروط الانتفاضة الثورية الحقيقية.

مصيدة التوظيف الدولي

الأخطر أن المعارضة التي مثّلها التشرينيون، بكل عفويتها ونقاء دوافعها الأولى، تحولت إلى أداة ضمن لعبة النفوذ الدولي. فالحراك، من حيث لا يدري، وقع في شبكة القوى الخارجية التي تسعى لتفكيك توازنات الداخل العراقي بما يخدم تنافسها.

لقد كان واضحًا أن بريطانيا تحديدًا رأت في تشرين فرصة لاختراق المشهد العراقي. فهي، بعكس الولايات المتحدة التي تمسكت بصيغة إدارة النظام القائم كمنظومة متوازنة ومسيطر عليها، دفعت باتجاه تصعيد الغضب الشعبي لإضعاف خصومها المحليين وتعزيز موقعها التنافسي. بمعنى آخر: تحولت المعارضة العراقية من أداة للضغط الاجتماعي إلى ورقة في الصراع البريطاني–الأمريكي على العراق
كيف دخلت بريطانيا على خط تشرين؟

1. الخلفية الاستراتيجية:
بريطانيا لم تغادر العراق فعليًا منذ 2003. احتفظت بقنواتها الأمنية والاستخبارية خاصة في الجنوب النفطي، ولها نفوذ تاريخي–اجتماعي يعود إلى الانتداب. بعكس واشنطن التي أدارت النظام كله عبر المحاصصة، ركزت لندن على تغذية تيارات احتجاجية تُربك خصومها وتفتح لها مجال النفوذ.


2. الأدوات المستخدمة:

الإعلام: تضخيم الرمزية الثورية وتوجيه الخطاب نحو استبدال الأشخاص لا النظام.

المنظمات والـ NGOs: عبر شبكات "المجتمع المدني" التي دعمتها لسنوات، دخلت لندن تحت عنوان الحقوق والديمقراطية، وأعادت تشكيل وعي الاحتجاج.

التدريب السياسي والإعلامي: استقطاب شباب إلى برامج في أربيل وعمان وبغداد نفسها، لبناء نخب "معارضة مروّضة".

إبراز رموز معيّنة: دعم وجوه شبابية تُقدَّم كقيادات "حديثة" ومقبولة غربياً، لتكون قنوات وسيطة بين الحراك والسلطة.

3. لماذا بريطانيا وليس أمريكا؟

واشنطن تمسكت بالتهدئة، ولم تكن معنية باضطراب جديد يعطّل تفاوضها مع إيران أو معركتها الكبرى مع الصين.

لندن أرادت انتزاع دور جديد على حساب واشنطن، مقدمة نفسها كراعٍ لـ"جيل التغيير".

بريطانيا دفعت نحو تأجيج الاحتجاجات لإضعاف النفوذ الإيراني من الباب الشعبي، بينما واشنطن فضلت ضبط التوازن بدل كسره.

بنية هشّة بلا وعي طبقي

جزء أساسي من هذا التوظيف يعود إلى هشاشة بنية تشرين نفسها:

غياب البرنامج الطبقي: الأزمة صُوِّرت كأزمة حكم فردي، لا أزمة اقتصاد ريعي وملكية فاسدة.

الاعتماد على الإعلام الخارجي: جعل الوعي الجمعي موجهًا مسبقًا.

الفراغ التنظيمي: غياب حزب أو نقابة أو تنظيم مستقل جعل الحراك لقمة سائغة للتدخلات.

ما بعد الخفوت

اليوم، وبعد مرور سنوات على تشرين، تتضح الصورة: لم يتغيّر شيء على مستوى الدولة أو البنية الاقتصادية. ما تغيّر فقط هو أن جيلًا واسعًا من الشباب خَبِر معنى الاصطدام بالآلة الأمنية من جهة، ومعنى الوقوع في مصيدة التوظيف الخارجي من جهة أخرى.

إن دروس تشرين لا تكمن في شعاراتها أو نتائجها، بل في فضح الوهم الإصلاحي الذي يفتقر إلى قاعدة مادية صلبة، وفي كشف هشاشة أي حراك شعبي حين يُترك بلا وعي طبقي ولا استقلال سيادي.