الوطنية البرجوازية: بين اللاهوت الرمزي والبنية المادية، والمعايير الماركسية


ليث الجادر
2025 / 9 / 26 - 15:40     

الوطنية البرجوازية ليست شعورًا فطريًا أو رابطة أزلية، بل هي نتاج تاريخي طبقي محدد. في لحظة صعود البرجوازية، أدّت الوطنية وظيفة تحررية: وحدت الفئات الاجتماعية المتفرقة، كسرت الامتيازات الإقطاعية، وأرست سلطة جديدة تسمح بتراكم رأس المال وتطوير السوق القومية. مثال واضح على ذلك هو الثورة الفرنسية، حيث استخدمت البرجوازية الوطنية الخطاب القومي لتفكيك النظام الإقطاعي وفرض سيطرتها الاقتصادية والسياسية.

مع تحوّل البرجوازية إلى طبقة سائدة، تغيّر وجه الوطنية. لم تعد مجرد أداة تحررية، بل تحوّلت إلى لاهوت سياسي–رمزي، يرفع مصالح طبقية محددة إلى مستوى القيم المطلقة، ويقدّم الدولة القومية وكأنها حقيقة أبدية فوق التاريخ. هذا اللاهوت يظهر في الخطاب، لكنه يجد تجسيده في البنى المادية: جيش دائم، بيروقراطية، قوانين، جهاز قمعي، وسوق موحدة تديرها الدولة باسم الأمة. مثال على ذلك هو الوطنيّة الألمانية في القرن التاسع عشر، حيث رافق التوحيد السياسي نظامًا اقتصاديًا مركزيًا وخطابًا قوميًا يشرعن الهيمنة البرجوازية.

الاستعارة من قاموس اللاهوت ليست انزلاقًا مثاليًا، بل تكثيفًا نقديًا يكشف كيف تُرفع المصالح الطبقية التاريخية إلى مصافّ المطلق، وكيف يُقدّس ما هو نتاج تاريخي–مادي. الوطنية البرجوازية بهذا المعنى آلية مزدوجة: على المستوى الرمزي، تخلق ولاءً يُخفي الصراع الطبقي، وعلى المستوى المادي، تؤسس بنية تضمن استمرار الهيمنة الاقتصادية والسياسية للبرجوازية.

معايير ماركس في تقييم الوطنية

ماركس لم يتبنَّ موقفًا موحدًا تجاه الوطنية، بل وضع معايير وظيفية–تاريخية:

1. وظيفتها في الصراع الطبقي: الوطنية تُدعم إذا أضعفت القوى الرجعية الإمبراطورية وساهمت في تقدم حركة الطبقة العاملة، كما في بولندا ضد روسيا القيصرية أو أيرلندا ضد بريطانيا.

2. مكانتها في التاريخ العالمي للرأسمالية: الوطنية في المستعمرات مثل الجزائر أو الهند كانت تُقيّم وفق دورها في إدخال هذه المجتمعات إلى مسار الرأسمالية الحديثة، حتى وإن كان ذلك عبر الاحتلال الفرنسي أو البريطاني.

3. الطبقة المنتصبة خلف الوطنية: دعم ماركس كان مرتبطًا بقدرة هذه الطبقة على إنتاج أثر ثوري؛ البرجوازية الأوروبية الصاعدة أو الطليعة الشعبية، بينما غابت هذه القدرة في المستعمرات، لذا كان دعم الوطنية محدودًا.

باختصار، مقياس ماركس كان وظيفيًا، تاريخيًا، وطبقيًا، لا أخلاقيًا أو مجرديًا.

تطور المعايير في ظل الرأسمالية المتأخرة والعولمة

مع رسوخ الرأسمالية وتحولها إلى طغيان عالمي وعولمة اقتصادية وسياسية، فقدت هذه التمايزات السابقة عمليتها. الوطنية اليوم لم تعد تُقاس وفق قدرتها على خدمة الثورة أو إدخال المجتمع في مسار الرأسمالية، بل وفق موقع الدولة ضمن النظام العالمي:

الدول الطاغية–العولمية تفرض وحدتها الوطنية أو توسعها لأغراض الهيمنة الاقتصادية والسياسية، كما يظهر في الولايات المتحدة أو الصين اليوم، حيث تُوظف الوطنية لتثبيت النفوذ الدولي وفرض قواعد السوق العالمية.

الدول الأصغر أو الأضعف تظل معرّضة لتوظيف الوطنية كأداة دفاعية أو إيديولوجية، لكنها لم تعد مرتبطة بالمعايير التاريخية لماركس في أوروبا أو المستعمرات.

بهذا التوسع، تتضح الوطنية البرجوازية كـجهاز مزدوج الطبقات: أداة رمزية تخفي مصالح الطبقة السائدة، وبنية مادية تؤسس للهيمنة، بينما المعايير التاريخية الماركسية لتقييمها قد تطورت مع تغير الواقع الرأسمالي والعولمة.