شكرا لبنان


علي الجلولي
2025 / 9 / 20 - 14:02     

خطف لبنان نهاية الأسبوع المنقضي الأضواء من كل العالم بتتالي حدثين جللين، الأول هو وصول المقاوم الأممي جورج ابراهيم عبدالله إلى مطار بيروت بعد رحلة أسر استمرت 41 عاما بالتمام والكمال، وفيما كان لبنان يستقبل ابنه البار وتزغرد حرائره على طول البلاد وعرضها، وفيما وصل جورج إلى منزل عائلته بعكار في جبل لبنان، نزل الخبر الصاعقة من مستشفى الخوري ببيروت أين أُعلن رحيل أحد القامات السامقة وأحد الأسماء الأصيلة للبنان، زياد الرحباني، الفنان والمبدع والمناضل. توقف نبض لبنان لدقائق، بل كل الوطن العربي والعالم الذي فقد أحد أيقوناته الثائرة. واختطف لبنان اهتمام الكرة الأرضية، ففي ساعات قليلة احتضنت أرضه الطيبة اثنين من أبرز الرموز الثورية لعصرنا، واحد هو جورج ابراهيم عبدالله الذي عاد ليعيش فوق أرض وطنه، والآخر وهو زياد الرحباني الذي انسحب من فوق الأرض ليحتضنه ثراها وأديمها بعد رحلة فن وفكر ونضال استمرت أكثر من خمسة عقود شكّل فيها زياد استمرارا خلاقا ومبدعا لمدرسة الرحابنة أحد معالم لبنان منذ ستينات القرن المنصرم.
ورغم حجم الرزية التي نغصت فرحنا بعودة القائد الشيوعي جورج ابراهيم، فإن مشاعر الفخر والاعتزاز سرت في عروقنا وبانت مؤشراتها في حركاتنا وسكناتنا، الفخر بلبنان الذي حملت أحشاؤه قادة كبار من طينة جورج وزياد، قائدان ثوريان لم يترددا لحظة ولو مليمترا واحدا في الإعلان عن التمسك بالمبادئ والقيم ، بل أيضا وأساسا في التشبث بالقناعات الشيوعية وبالنضال الواعي والمنظم. قائدان فذان أصيلان من طينة كوكبة قادة النضال الثوري المعاصر وحتى القديم. لقد مثّلا نموذجين للمقاتل الصامد الذي لم تزده عقود الأسر إلا ثباتا ووضوحا، وفنانا مبدعاً ملتزما لم يتزحزح لحظة عن انحيازه إلى شعبه وفقرائه وإلى كل مسحوقي الأرض وظل إلى آخر رمق عضوا نشيطا في حزبه، الحزب الشيوعي اللبناني، حزب الأمجاد.
جورج وزياد أضاءا ليل لبنان الذي يمرّ بفترة من أسوأ لحظات تاريخه الراهن في ظل وضع إقليمي ودولي لا يقلّ تعقيدا، وضع اعتقد الكثير أنه فتح نهائيا على الهزيمة والاستسلام والتطبيع معهما. لكن خطاب جورج وحرارة معانيه ووضوح معجمه وألفاظه أعاد الروح لخطاب مقاوم ظلت لبنان لعقود أرضه وسماءه. لقد اعتقد الكثير أنّ اغتيال حسن نصرالله وتصفية صفّ قيادي مهمّ في حزب الله وتسلل مطابخ البترودولار وأولياء نعمتهم إلى مفاصل القرار اللبناني سيكون بمثابة إعلان إذعان لأحد أهم ساحات المقاومة. لكن كوفية جورج وقميصه الأحمر فنّدت كل هذا وصاحت بأعلى صوت أنّ لبنان لا ولن يموت . لبنان الذي ظل وفيا لإرثه النضالي العريق والذي عُمِّد بدماء شهدائه منذ فرج الله الحلو، أول أمين عام للحزب الشيوعي، حزب مهدي عامل وحسين مروّة وجورج حاوي. لبنان الذي نشأت فيه الأفكار القومية التأسيسية والتمسك بالعروبة ضدّ نوازع فصل الوطن عن محيطه، لبنان كمال جنبلاط وشكيب أرسلان، لبنان التحام الدم والبندقية والمصير مع المقاومة الفلسطينية في المخيمات وفي بيروت والضاحية والجنوب والجبل وكل ذرة من مساحة لبنان الصغير الكبير. لبنان معارك الشرف التي قدم فيها بناته وأبناءه بدون تردد وبكل سخاء، لبنان جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية “الجمول” التي صاغت معادلات لبنان الوطني ضدّ لبنان الطائفي الانعزالي والعميل.
لبنان الذي يمسك البندقية بيد، والقلم والعود والخشبة باليد الأخرى، لبنان بشارة الخوري وميخائيل نعيمة وفيروز وعاصي ومنصور الرحباني، لبنان مرسال خليفة وخالد الهبر، لبنان جريدة النهار وإذاعة صوت الشعب ودار الفارابي للنشر.
لبنان الذي موّل الحركة الثورية وحركة التحرر الوطني العربية بالكثير الكثير من عناصر المناعة السياسية والثقافية، ها هو يبدد اليوم وحشة الطريق من خلال أبنائه الخلّص.
إنّ الحركة الثورية في الوطن العربي والعالم لم تكن يوما عاقرا وإن طالت أحيانا سنوات الجدب، وها هي حركة التحرر الوطني تستعيد وهجها الثوري الذي ظن البعض أنه انقضى بلا عودة. إن وضوح الرؤية وسلامة المواقف وسداد النظرة والتمسك بالمرجعية الثورية هو ما يؤهلنا اليوم للعب دورنا كاملا في هذه اللحظة الدقيقة من تاريخ شعوبنا ومنطقتنا.
فلتكن بوصلة جورج ابراهيم عبدالله وجرأة زياد الرحباني معيننا الذي لا ينضب.


تونس،04 أوت 2025