الصهاينة في عدن: مشهد عبثي في مهد الثورة التحررية!


منذر علي
2025 / 9 / 14 - 23:49     

تتواتر الأخبار من مصادر صحفية موثوقة، تكشف عن مشهد لا يخلو من الغرابة والصدمة: وفد صحفي إسرائيلي يزور العاصمة اليمنية المؤقتة، عدن، تحت غطاء ما يسمى بـ “منتدى الشرق الأوسط"، في ترتيبات مدروسة ومحكمة من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة، التي يبدو أنها تواصل لعب دور الوسيط المخلص في مشروع التطبيع الإقليمي مع الكيان الصهيوني، بل وتسعى لإقحام هذا الكيان المجرم في أتون الصراعات اليمنية... اليمنية.

***
تؤكد التقارير أنَّ الوفد الصهيوني عقد لقاءات مع قيادات سياسية وإعلامية وعسكرية تابعة للمجلس الانتقالي، حيث عبّرت هذه القيادات عن "وحدة المصير" مع إسرائيل والولايات المتحدة في مواجهة الحوثيين، في خطاب يعيد إنتاج نفس الروايات التي تسعى إلى تسويق التطبيع كضرورة حتمية. أما الوفد الإسرائيلي، فقد أبدى سعادته بزيارة عدن، وكرر دعمه لمساعي المجلس الانتقالي في تقرير المصير واستعادة الدولة، وكأنَّ القضية اليمنية باتت مجرد ورقة تُلعب على طاولات المصالح الإسرائيلية والإماراتية.

***
لكنَّ الأمر لم يتوقف عند التصريحات الدبلوماسية أو التحركات الإعلامية؛ فقد طلب المجلس الانتقالي من الوفد الصهيوني تجهيزات عسكرية تشمل "رشاشات خفيفة وثقيلة، دفاعات جوية، وطائرات مُسيّرة." وفي خطوة تحمل أبعادًا عسكرية وأمنية شديد الْخَطَر، انتقل الوفد الإسرائيلي إلى مناطق استراتيجية مثل الضالع وأبين، حيث قام بجولات "استكشافية" ذات طابع عسكري واضح: التقاط صور للمواقع العسكرية، رسم خرائط طبوغرافية لتضاريس المنطقة، وربما وضع الأُسس لتدخلات أعمق في المستقبل.

***
السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: كيف يمكن أن يحدث هذا في عدن؟
كيف تتحول عدن، التي كانت يومًا رمزًا للثورة التحررية في الجزيرة والمنطقة العربية، إلى منصة تستقبل الصهاينة في الوقت الذي تتواصل فيه الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين؟ كيف يمكن أنْ تستضيف عدن وفدًا يمثل كيانًا استيطانيًا استعماريًا، في وقت تُقصف فيه غزة، ويُحاصر سكانها، وتجوع شعب بِرُمَّته تحت وطأة الاحتلال؟ كيف يمكن أن يحدث هذا فيمَا البرلمانية البريطانية من أصول يمنية، ابتسام محمد، تُمنع من دخول الأراضي الفلسطينية لتوثيق الجرائم الإسرائيلية، في حين أن قيادات يمنية تستقبل وفود الكيان نفسه بترحاب وتطلب منهم العون العسكري لمواجهة جماعات يمنية أخرى؟

***
إن هذا المشهد يدعو إلى التأمل العميق في مسألة الضمير السياسي، أو بالأحرى غياب هذا الضمير. هل تعبر السلطات في عدن عن إرادة الشعب اليمني الذي طالما ارتبط وجدانه بالقضية الفلسطينية، أم أنها تعبر عن إرادة قوى لا ضمير لها، قوى لا ترى في الوطن سوى ساحة للمناورة والمصالح الفئوية؟ هل باتت عدن، التي احتضنت قيادات الثورة الفلسطينية والعربية، رهينة لمشروع إماراتي-إسرائيلي يهدف إلى إعادة صياغة المنطقة وفقاً لخطط الهيمنة الصهيونية والإمبريالية؟

***
عدن والتاريخ: من مهد الثورة إلى مستنقع التطبيع
إن عدن ليست مدينة عادية في التاريخ اليمني أو العربي؛ إنها كانت رمزاً للنضال ضد الاستعمار، منصة احتضنت الأحرار من كل مكان، ومركزاً لإلهام حركات التحرر في كافة أنحاء المنطقة. كيف يمكن لهذه المدينة أن تتحول إلى مسرح لتطبيع العلاقات مع كيان استيطاني، في تناقض صارخ مع تاريخها ومكانتها؟ كيف يمكن لمن كانوا بالأمس جزءاً من حركة تحرر وطني أن يصبحوا اليوم أدوات في يد مشروع استعماري جديد؟

***
الهُوِيَّة اليمنية في مفترق الطرق:
إن ما يحدث في عدن ليس مجرد واقعة سياسية أو حادثة عابرة؛ إنه يظهر أزمة أعمق تتعلق بالهوية الوطنية اليمنية. هل يمكن لليمن، الذي طالمَا كان جزءًا من النضال العربي والإسلامي ضد الاستعمار، أن يتخلى عن دوره التاريخي ويصبح شريكًا في مشاريع تمزيق المنطقة؟ هل يمكن لليمنيين أن يسمحوا بتحويل وطنهم إلى ساحة لصراعات إقليمية ودولية تخدم أجندات لا تمت بصلة إلى طموحاتهم أو معاناتهم؟

***
نداء إلى الضمير اليمني والعربي والإنساني:

إن هذه اللحظة تتطلب وقفة جادة من كل يمني حر، ومن كل عربي يدرك أن التطبيع مع الكيان الصهيوني ليس مجرد خيانة للقضية الفلسطينية، بل خيانة لجوهر النضال ضد كل أشكال الاستعمار والهيمنة. إن تاريخ عدن، وتاريخ اليمن بأسره، لن يُكتب من قبل أولئك الذين يساومون على مبادئهم مقابل مكاسب مؤقتة. بل سيُكتب بأيدي أولئك الذين يدافعون عن الكرامة والحرية والعدل، مهما كانت التحديات.

***
لقد آن الأوان لليمنيين، في الداخل والخارج، أن يرفعوا صوتهم ضد هذا العبث السياسي، وأن يؤكدوا أن عدن ليست للبيع، وأن اليمن ليس ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية أو الدولية. عدن يجب أن تظل رمزًا للثورة والتحرر، لا منصة للتطبيع والخيانة. ولن يكون لهذا الوطن مستقبل إذا لم يكن حاضره مبنيًا على قيم السيادة والكرامة والعدالة، بعيدًا عن أي وصاية أو هيمنة.