فضلات بغداد إلى أوروبا: تجارة غير متوقعة في بدايات القرن العشرين
ليث الجادر
2025 / 9 / 12 - 17:45
تكشف تقارير القناصل البريطانيين في العقد الثاني من القرن العشرين عن مشهد بالغ الدلالة في ولاية بغداد العثمانية. ففي حين كان روث الحيوانات – من بقر وخيول وكلاب – يُجمع من أزقة المدينة وأطرافها الريفية ليُصدَّر عبر الموانئ إلى أوروبا، حيث يُستخدم في دباغة الجلود وصناعة الأسمدة، كانت طبقة مرفهة في المجتمع البغدادي تستورد الشمبانيا الفرنسية والخمور الأوروبية ومكائن الخياطة الألمانية.
هذه المفارقة ليست تفصيلاً طريفًا في التاريخ الاقتصادي، بل هي مرآة تعكس التفاوت الاجتماعي الصارخ. فبينما كان فقراء معدمون – نساء وأطفال في الغالب – يجمعون الفضلات لقاء قروش زهيدة، كان هناك تجار وأعيان يعيشون رفاهية الاستهلاك الأوروبي. وهكذا غدا الروث سلعة دولية، وغدت الخمور رمزًا للتمايز الطبقي، فيما غابت عن بغداد آنذاك أي صناعة محلية قادرة على ملء الفراغ بين هذين الطرفين.
أما عن معدلات الفقر، فلا نملك إحصاءات دقيقة بالمعنى الحديث، لكن الشهادات المتاحة – من أرشيف عثماني وتقارير قنصلية ومذكرات رحّالة – تؤكد أن الغالبية الساحقة من سكان بغداد كانت تعيش على الكفاف أو دونه. يمكن تقسيم المجتمع آنذاك إلى ثلاث فئات:
1. نخبة صغيرة من كبار التجار والمسؤولين والأسر الثرية المرتبطة بالإدارة العثمانية.
2. طبقة وسطى محدودة تضم الحرفيين وصغار التجار وبعض المثقفين.
3. أغلبية فقيرة من العمال والفلاحين النازحين إلى المدينة، يعيشون في ظروف بائسة بلا خدمات أساسية، عرضة للأوبئة والمجاعات.
وبذلك، فإن مشهد بغداد في تلك السنوات كان مشهد اقتصاد تابع بكل معاني الكلمة: مواد أولية تُصدَّر إلى أوروبا، كماليات أوروبية تُستورد لتغذية نزعة استهلاكية لدى قلة من المترفين، فيما تتحمل الأغلبية عبء الفقر وانعدام الأمان الاجتماعي.
بغداد بين الأمس واليوم: استمرار المفارقة باختلاف الأدوات
بعد أكثر من قرن، تتبدل الأشكال لكن جوهر المفارقة يبقى حاضرًا. لم تعد بغداد تصدّر فضلات عضوية، لكنها ما تزال تعتمد على تصدير مادة أولية شبه وحيدة: النفط الخام. وكما كان الروث سلعة رخيصة تتحول في أوروبا إلى قيمة صناعية، فإن النفط العراقي يخرج من الأرض ليُعاد إنتاجه في المراكز الصناعية الكبرى ويُستورد جزء منه كمنتجات مكررة أو كماليات استهلاكية.
أما الاستيراد، فقد تغيرت السلع لا طبيعتها: بدل الشمبانيا ومكائن الخياطة، كانت هناك أيضًا ساعات إنتاجية وأدوات عمل تعكس جزءًا من النشاط الاقتصادي المحلي، أما اليوم فتكاد تختفي كل السلع الإنتاجية المستوردة، وتغلب عليها النزعة الاستهلاكية والكمالية، مثل السيارات الفارهة والأجهزة الإلكترونية والمشروبات الأجنبية التي تغزو أسواق بغداد وتستهلكها النخبة.
وإذا نظرنا بشكل دقيق ومقارنة موضوعية، نجد أن اقتصاد بغداد المحلي في زمننا الراهن شبه غائب عن الإنتاج الحقيقي: لا إنتاج زراعي يُصدَّر، ولا صناعات محلية كبيرة تحرك عجلة التصدير. هذا الانقطاع يمثل فصلاً جديدًا في تاريخ المدينة الاقتصادي، حيث تحولت بغداد من سوق محلية متكاملة إلى مستهلكة بالكامل للثروات والسلع الأجنبية، بينما يُخرج النفط الخام من العراق ليُعاد تصنيعه في مراكز صناعية خارجية.
وبينما كان أغلب سكان بغداد في مطلع القرن العشرين يعيشون على الكفاف تحت رحمة الأوبئة والمجاعات، فإن ملايين العراقيين اليوم يعيشون تحت خط الفقر رغم الثروة النفطية. الأمس كان جوعًا وأوبئة، واليوم هو بطالة وبنية تحتية منهارة.
إذن، المفارقة مستمرة: الأغلبية تصنع ثروة لا تراها، والأقلية تنغمس في رفاه مستورد، والمجتمع بأكمله يظل عالقًا في حلقة التبعية، سواء كان المُصدَّر روثًا أو نفطًا.
خاتمة
إن المقارنة بين بغداد العثمانية وبغداد اليوم تكشف عن خيط واحد لم ينقطع: التبعية الاقتصادية. ففي الأمس كان الروث يُصدَّر ويُعاد تدويره في أوروبا، واليوم هو النفط الخام الذي يغادر العراق ليعود في صورة منتجات مصنَّعة. وبينما تتكدس في الأسواق الكماليات المستوردة لتغذية رفاه طبقة ضيقة، تبقى الأغلبية تعيش في فقر وبطالة وانعدام أمان اجتماعي.
هذا هو جوهر الاقتصاد الريعي: ثروة طبيعية تتحول إلى مصدر استهلاك بدلاً من أن تكون أساسًا لإنتاج محلي وتنمية متوازنة. بغداد إذن لم تخرج من حلقتها التاريخية؛ غيّرت فقط السلعة، بينما بقيت المفارقة كما هي: ثروة بلا سيادة، وفقر بلا نهاية.