الاقتصاد الرقمي: سلعة وهمية بين الرأسمال الوهمي والوهم السياسي
ليث الجادر
2025 / 9 / 10 - 20:57
الاقتصاد الرقمي نشاط رأسمالي طفيلي، لا يملك أي قيمة ضرورية في موازين الحاجة الإنسانية الفعلية. إنّه لا ينتج غذاءً، ولا دواءً، ولا مأوىً، ولا أداةً صناعية ملموسة، بل يقتصر على تلبية حاجة مصطنعة صارت تُقدَّم على أنّها ضرورة. فالإنسان اليوم لا يقول: "أحتاج الإنترنت كي أعمل" أو "كي أتعلم"، بل صار يقول ببساطة: "أحتاج الفيسبوك أو التويتر لأنني أحتاجهما"، وكأن الحاجة قائمة في ذاتها، لا في نفعها. هذا هو جوهر الوهم: أن تتحوّل الوسيلة إلى غاية في ذاتها. وهكذا تأسس الاقتصاد الرقمي منذ بدايته كترفٍ اجتماعي، تسلية مجانية تُقدَّم لجذب الإنسان، ثمّ ما لبث أن تحوّل إلى فخٍّ بنيوي محكم: المجانية فتحت الأبواب، والاعتياد أغلقها، لتتعملق المنصات وتطغى على تفاصيل الحياة اليومية.
منذ تلك اللحظة، لم يعد النشاط الرقمي محصورًا في التسلية، بل أصبح مسارًا تتدفق عبره مليارات الدولارات من كل أصقاع الأرض، تتنقّل بين جيوب الناس لتستقر في خزائن الشركات الكبرى، دون أن تُنتج قيمة مضافة للمجتمع. أي قيمة ملموسة تحققت؟ الواقع أن ما تحقق هو إعادة إنتاج الفراغ، أي إنتاج الحاجة من الحاجة نفسها.
والأكثر إيلامًا وخطورة أنّ هذا النشاط لا يقف عند حدود اللاقيمية، بل يفرز نتاجًا قيّميًا سلبيًا يخدم قوى التخلف والرجعية، ويحفظ مصالح وأمن الأنظمة القائمة. لقد استدرجت المنصات حركات المعارضة واتجاهات الاحتجاج، فدفعتها إلى الانغماس في العالم الافتراضي الذي تتحكم فيه شركات ومؤسسات عبر الفلترة، فتفتح مجالًا لهذا الصوت وتغلقه أمام ذاك، توجّه هنا وتمنع هناك، فيما بقي العالم الواقعي ساحة شبه خالية للفاعلين القدامى. هكذا جرى تدجين الاحتجاج وإفراغه من فاعليته السياسية.
هذا المنطق يوازي ما أشار إليه ماركس حين تحدّث عن الرأسمال الوهمي: ذلك الرأسمال الذي يقوم على التوقع لا على الإنتاج الفعلي، على الوعد بقيمة مستقبلية لا على القيمة المتحققة. الأسهم، السندات، والأوراق المالية تمثل نموذجًا لهذا الرأسمال، فهي ليست سلعًا حقيقية، لكنها قادرة على امتصاص فائض القيمة من الاقتصاد المنتج. بالقياس نفسه، فإن الاقتصاد الرقمي ينتج سلعًا وهمية: صور، إشعارات، إعجابات، مشاهدات… كلها ليست سلعة بالمعنى المادي، لكنها تستهلك وقت الإنسان وجهده وماله، وتعيد توزيع الثروة في مسارٍ لا ينتج شيئًا سوى المزيد من الاستلاب. الرأسمال الوهمي هنا يطلّ برأسه مجددًا في ثوب رقمي معاصر.
وعند النظر إلى الإنفاق على الإنترنت في أربع دول عربية فقط—العراق، مصر، الإمارات، والأردن—يتدفق شهريًا نحو ملياري دولار تقريبًا، ينفقها ملايين البشر على نشاط لا ينتج قيمة ملموسة، بل يعيد توجيه الانتباه والسيطرة إلى مزوّدي الخدمة وشركات البنية التحتية. هذه السيولة الضخمة تُستنزف في سلعة افتراضية، تعيد إنتاج الرأسمال الوهمي، وتحوّل الفعل الرقمي إلى وهم سياسي: فكل نقرة وكل مشاركة تعمل كأداة ضمن شبكة أكبر تتحكم في تدفق المعلومات والوعي، بينما تبقى القوى القديمة فاعلة في العالم الواقعي.
بهذا المعنى، الاقتصاد الرقمي ليس مجرد حيّز جديد من النشاط البشري، بل هو تجسيد حداثي للرأسمال الوهمي، وأداة سياسية لإعادة إنتاج السيطرة، حيث يتوهّم الفرد أنّه يمارس فعلًا سياسيًا من خلال التدوين والمشاركة، بينما السلطة تضمن أنّ الفعل يبقى محصورًا في فضاء افتراضي، مأمون الحدود، قابل للضبط، بعيدًا عن أي تأثير فعلي في ميزان القوى الواقعي.