خميس والبقرى، شمس لاتغيب
حسن مدبولى
2025 / 9 / 8 - 13:48
في صباح السابع من سبتمبر عام 1952، صُلب حلم العدالة على أعواد المشانق، حين نُفِّذ حكم الإعدام في عاملين شابين من عمال شركة مصر للغزل والنسيج بكفر الدوار:
الشهيد محمد مصطفى خميس (19 عامًا)، وزميله محمد عبد الرحمن البقري (17 عامًا).
شابان غضّان، لم يحملا سلاحًا ولم يخططا لانقلاب، بل طالبا فقط بحقوق بسيطة وعادلة: تحسين أوضاع العمال، وقف النقل التعسفي لزملائهم، وزيادة الأجور بما يليق بعرقهم ودمائهم التي تُسقي مصانع الوطن.
بدأت القصة يوم 12 أغسطس 1952، بعد أسابيع قليلة من ثورة يوليو التي بشّرت المصريين بفجرجديد، لكن إدارة المصنع رأت غير ذلك عندما أقدمت على نقل مجموعة من العمال إلى كوم حمادة دون ذنب، فاشتعل غضب رفاقهم وقرروا الإضراب دفاعًا عن كرامتهم، وكانوا يتوقعون أن الثورة الوليدة ستصغي لصوتهم، فإذا بالصدمة تأتيهم من حيث لم يحتسبوا: قوات الأمن تحاصر المصنع وتقتحمه، تسقط أول شهيد من صفوف العمال، وتُحاصر المئات، فيخرج رفاقهم والأهالي بمسيرة غاضبة دفاعًا عن المظلومين، لتتحول المدينة الهادئة إلى ساحة مواجهة غير متكافئة.
دبابات ومدرعات تطوّق كفر الدوار، رصاص ينهال بلا رحمة، أربعة عمال يسقطون شهداء، جنديان حكوميان يقتلان، المئات يُعتقلون، وأحلام العدالة الاجتماعية تُسحق تحت جنازير الحديد.
وفي خضم هذا المشهد الدموي، جرى اقتياد خميس والبقري إلى محاكمة عاجلة أشبه بالتمثيلية، أربعة أيام فقط بلا أدلة حقيقية، بلا دفاع منصف، وسط أجواء معادية تريد رأسين بريئين لتلقين الآخرين درسًا قاسيًا.
تُروى الحكاية أن القاضي سأل إن كان بين الحضور من يستطيع الدفاع عن المتهمين، فتصادف وجود الصحفي الشاب آنذاك موسى صبري الحاصل على ليسانس الحقوق، فكُلّف بالدفاع عنهم. لكن دفاعه – كما نقلت بعض المصادر – كان سببًا في تثبيت التهمة أكثر مما كان سندًا لهم.
صدر الحكم: الإعدام شنقًا لخميس والبقري. ثم صادق عليه مجلس قيادة الثورة سريعًا، بدعوى الردع ومنع "التمرد". فلم يشفع لهم صغر سنهم، ولا فقر البقري الذي كان يعول أمًا معدمة وخمسة أفراد مقعدين، ولا كونهم رمزًا لعرق الشغيلة الذين حركوا مصانع مصر بأذرعهم العارية.
وفي سجن الحضرة بالإسكندرية، أُسدل الستار على حياتهما، لكن ذكراهما تحولت إلى راية خفاقة في تاريخ الحركة العمالية المصرية. خرجا من الدنيا وهما أكثر نقاءً من كل حسابات السياسة، وأكثر وفاءً لقضية العدل من كل الشعارات.
لقد أرادوا أن يجعلوا منهما عبرةً، فإذا بهما يصبحان رمزًا خالدًا، يذكّرنا بأن العدالة إذا غابت، لا يبقى للوطن سوى دماء أبنائه البسطاء لتكتب التاريخ من جديد.