تراجع المساعدات الإنسانية


فهد المضحكي
2025 / 9 / 6 - 17:06     

لم يعد ما يُعرف بقطاع التنمية الإنسانية قادرًا على مواصلة الدور الذي وعُد به. فالمانحون التقليديون باتوا اليوم مثقلين بالأزمات الداخلية، مفلسين سياسيًا وماليًا، وتراجع اعتمادهم على «القوة الناعمة» الإنسانية لتحقيق أجندتهم الخارجية. الرهان عليهم كمصدر تمويل رئيسي للتنمية لم يعد رهانًا ذكيًا، بل بات وصفه للفشل والتبعية.

في مقال نُشر على أحد المواقع، تعريب اوديت الحسين، يرى الكاتبان، اليس اوبريخت، ومايك بيرسون «أن الأرقام والاتجاهات، توضح كيف تغير التمويل الإنساني في السنوات الأخيرة، وما الذي يعنيه ذلك لمستقبل هذا القطاع في عام 2025 وما بعده».

خلاصة وجهة نظرهما، يواجه القطاع الإنساني مستقبلًا قاتمًا وسط خفض كبير في تمويل كبار المانحين. يسعى هذا القطاع اليوم لفهم تداعيات المستقبل في ظل تقليص أبرز مانحيه لحجم تمويلهم بشكل كبير. تسلط بيانات جديدة الضوء على الاتجاهات التي كانت خفية خلف هيمنة التمويل الأمريكي، وتوضح أهمية المانحين الصغار، وتكشف عما ينتظرنا في عام 2025 وما بعده.

ووفقًا لبيانات أولية صدرت في 16 أبريل 2024 عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، انخفض التمويل الرسمي للتنمية للمرة الأولى منذ خمس سنوات. حيث قدم أعضاء لجنة المساعدة الإنمائية التابعة للمنظمة - وهم في الغالب من دول الشمال العالمي- ما مجموعه 212,1 مليار دولار كمساعدات إنمائية، منها 24,2 مليار دولار كمساعدات إنسانية. وهذا يمثل انخفاضًا بنسبة 7,1% في التمويل الإنمائي، و 9,6% في التمويل الإنساني مقارنة بالعام السابق.

رغم أن العنوان البارز لبيانات 2024 هو تراجع المساعدات الإنسانية بنسبة 9,6%، فإن هذا الرقم لا يعكس الصورة الكاملة. الأرقام الأهم تظهر عند استثناء التمويل الأمريكي والمساعدات الموجهة لأوكرانيا- أكبر جهة مانحة وأكبر جهة متلقية.

فعند تجاهل التمويل الأمريكي والتركيز على باقي المانحين، نلاحظ أن التمويل الإنساني بلغ ذروته في عام 2022، حيث زادت المساعدات بنسبة 52% مقارنة بعام 2015. لكن عندما إدرج التمويل الأمريكي، استمر الارتفاع حتى 2023، ثم بدأ الانخفاض.

عوَّض التمويل الأمريكي المرتفع في 2023 عن التراجع في تمويل الحكومات الأخرى، مما جعل المساعدات الإنسانية الرسمية تبلغ أعلى مستوياتها على الإطلاق، بزيادة قدرها 66% عن مستويات 2015.

بعبارة أخرى، غطَّى التمويل الأمريكي على حالة الجمود في باقي المساعدات الإنسانية.

وقد كان واضحًا في ذلك الحين أن اعتماد القطاع على حكومة واحدة لتوفير أكثر من ثلث التمويل العالمي أمر غير مستدام، لكن قلة فقط توقعت السرعة التي سيُجبر بها القطاع على التخلص من اعتماده على الدولار الأمريكي.

ومع إنهيار ميزانيات المساعدات هذا العام، من المرجَّح أن تنخفض الأرقام أكثر في 2025. وتتوقع المنظمة تراجعًا في المساعدات الرسمية للتنمية يتراوح بين 9 و17% العام المقبل.

قطرة في بحر المانحين... رغم أنه يستخدم كثيرًا من قبل الساسة اليمينيين كهدفٍ للهجوم، فإن التمويل الإنمائي الرسمي لا يمثل سوى نسبة ضئيلة من إنفاق الحكومات المانحة، بل ويكاد لا يذُكر عند مقارنته بدخلها القومي خصوصًا في مجال المساعدات الإنسانية.

وكمثال، هناك هدف تطوعي حدّده مجلس الأتحاد الأوروبي لدولة الأعضاء يقضي بتخصيص 0,07% من الدخل القومي الإجمالي كمساعدات إنسانية. لكن حتى هذا الهدف المتواضع - والذي يمثل عُشر الهدف الأشمل والأكثر طموحًا ببلوغ 0,7% من الدخل القومي الإجمالي- لا تحققه سوى أربع دول فقط من أعضاء لجنة المساعدات الإنمائية: لوكسمبورغ، والنرويج، والسويد، والدنمارك. الاتجاه العام لم يتغير خلال عقد كامل. في 2015 أيضًا، لم يكن هناك سوى أربع دول فقط حققت عتبة 0,07%، ويبدو أن هذا الرقم لن يرتفع كثيرًا في المستقبل القريب.

رغم الخطاب المتكرر حول ما يسمى «الترابط بين العمل الإنساني والتنمية والسلام» خلال العقد الماضي، فإن الاتجاهات الحديثة تظهر تراجعًا في تمويل التنمية والسلام مقارنة بالمساعدات الإنسانية في البيئة الهشة للغاية.

وقد ظهر هذا الاتجاه بوضوح في الاقتراح الأمريكي بإنشاء «وكالة المساعدة الإنسانية الدولية» لتحل محل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID. وأثار هذا المقترح قلقًا من دخول حلقة مفرغة: فإذا ما انسحب المانحون من دعم التنمية والسلام في البيئات الهشة، فإن الطلب على المساعدات الإنسانية سيزداد مع تفاقم الأزمات.

لكن بيانات 2024 تروي قصة مختلفة: فقد خفّض معظم المانحين تمويلهم الإنساني بنسبة أكبر مقارنة بخفضهم للمساعدات الإنمائية عمومًا. من الصعب التنبؤ بكيفية تطور هذه الاتجاهات في 2025، خاصة مع ميل بعض الدول- وعلى رأسها أمريكا- للتركيز على الإغاثة الإنسانية على حساب التعاون التنموي. لكن أرقام 2024 لا تُظهر أن المانحين يخططون لاستخدام التنمية كاستراتيجية خروج لتعويض تقليص المساعدات الإنسانية. بل على العكس، بقيت المساعدات الإنسانية الشكل الرئيسي للتمويل في البيئات الهشة، والتراجع فيها لن يُعوض بأشكال أخرى من التمويل.

في ظل اجتماعات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، يجب أن يكون الحفاظ على التعاون التنموي في البيئات الهشة، ومنع أزمات الديون في الدول المعرضة للكوارث، على رأس الأولويات.

أصبح من الضروري أكثر من أي وقت مضى فهم كيفية تخصيص المانحين لأموالهم وسط تقليص التمويل العالمي. ويواجه النظام الإنساني أسئلة محورية:
ما الشكل الحقيقي لنظام تمويلي قائم على الاحتياجات؟ وما الذي يجب أن يُعطى الأولوية؟

طالما وجَّهت الانتقادات للمانحين بأنهم يميلون لاستخدام أجندات سياسية عند تخصيص المساعدات. لكن الأرقام تكشف بأن الاستخدام السياسي أعلى بكثير من المتداول. على سبيل المثال: تعتبر الاستجابات في أوكرانيا وفلسطين من أبرز الأزمات الإنسانية ذات الأبعاد الجيوسياسية في السنوات الأخيرة. لكن تعامل المانحين معها كان متباينًا. فلم يخصص أي من أكبر عشرة مانحين أكثر من 40% من مساعداته الإنسانية لهذين الملفين مجتمعَين.

في المقابل، يبنى المانحون الأصغر استراتيجيات مختلفة، حيث خصّص ستة منهم أكثر من 40% من تمويلهم لأوكرانيا وفلسطين، بينما اتجه آخرون لتمويل أزمات أقل شهرة أو دعمًا، في محاولة لتعظيم أثر مساهماتهم المحدودة.
قد تكون هذه المرونة مفيدة في مواضع محددة، ولكنَّها ليست ممكنة إلّا في وجود مانح ضخم يوفر قاعدة تمويلية واسعة. والآن، مع تغير التمويل الأمريكي، بات من الواضح أن البيئة التمويلية تغيّرت بالكامل.

لم يعد هناك متسع للخطأ أو الهدر، ولا مبرر لتكرار الجهود أو التركيز المفرط على أزمات تحظى بالتغطية الإعلامية. والسؤال الأهم: كيف يمكن للمانحين الصغار ومتوسطي الحجم تعزيز كفاءتهم الجماعية لضمان توزيع التمويل بشكل أكثر عدالة عبر الأزمات المختلفة؟
تواجه الحكومات المانحة ضغوطًا هائلة، ويُطلب منها اتخاذ قرارات مثالية وسط تدقيق شديد من شركائها في القطاع، وقادتهم السياسيين، وأحيانًا وسائل إعلامهم المحلية.

لسنوات طويلة، تم تجاهل نقاشات ضرورية حول مدى استدامة وصحة النظام التمويلي الإنساني. أما اليوم، فتحدث هذه النقاشات بشكل متسارع، لكن في حالة من السقوط الحر. ولابد من الاعتراف أن التحديات الراهنة لا تنبع فقط من الاعتماد الزائد على مصدر تمويل واحد، بل أيضًا من خلل جوهري في هيكل النظام التمويلي. عناصر كانت تُعتبر مقبولة سابقًا- مثل: غياب التنسيق بين المانحين، أو الميل السياسي في تخصيص الأموال- أصبحت الآن تشكل خطرًا كبيرًا على الكفاءة.