الانتهازية والانعزالية: وجهان لعملة واحدة في أزمة اليسار الثوري
عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 9 / 5 - 19:15
تمر الحركة الثورية في العالم العربي بأزمة عميقة تعكس الانقسامات الفكرية والسياسية التي تفتك بجسد اليسار. هذا الانقسام الحاد بين تيارين يزعم كل منهما تمثيل الفكر التقدمي ليس مجرد خلاف تنظيمي، بل هو إعادة إنتاج لمأزق تاريخي تواجهه الحركات الاشتراكية منذ القرن التاسع عشر. التيار الأول يتخفى وراء شعارات "الواقعية" و"المرونة" لتقديم نفسه كخيار عملي للتعامل مع تعقيدات الواقع السياسي، بينما يرفع التيار الثاني رايات "الجذرية" و"النقاء الأيديولوجي"، متخفيًا خلف شعارات صلبة لكنه انعزالي عن الجماهير والواقع الطبقي. وبالرغم من الاختلاف الظاهري بينهما، فإن كلا التيارين يخدم مصالح الطبقات المسيطرة، ويفسحان المجال أمام القوى الإصلاحية والبرجوازية لإعادة إنتاج هيمنتها، مما يضع الحركة الثورية في مأزق مزدوج بين الانحراف عن المبادئ وفقدان تأثيرها العملي.
تُعد الانتهازية اليمينية، الوجه الأكثر خداعًا لهذه الأزمة، نموذجًا واضحًا لكيفية تآكل القوة الثورية تحت ذرائع التحالف مع القوى غير الثورية. فهي تزعم أن مثل هذه التحالفات ضرورية لمواجهة "الخطر الأكبر" أو لتحقيق مكاسب مرحلية، لكن التجارب التاريخية تكشف أن هذه التنازلات دائمًا ما تذيب القوة الثورية في مؤسسات النظام، وتحولها إلى واجهة مزيفة تغطي مصالح الطبقات الحاكمة. ففي أوروبا، ذابت أحزاب اشتراكية في تحالفات مع الليبراليين خلال أوائل القرن العشرين، وفقدت القدرة على الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة. وفي السياق العربي، أظهرت الثورات التونسية والمصرية كيف عطّلت الانتهازية النضال الجماهيري ومهدت الطريق للثورة المضادة. وحتى في إفريقيا جنوب الصحراء، أدت التحالفات الانتهازية مع النخب القبلية إلى إضعاف الاستقلالية الطبقية وحرمان الجماهير من قيادة حقيقية.
على النقيض، تقدم الدوغمائية اليسارية نفسها كخط ثوري صلب، لكنها في الجوهر انعزالية عن الواقع الطبقي. هذا التيار يرفض التفاوض أو التحالف تحت شعار "النقاء الثوري"، متجاهلاً أن الجماهير لا تناضل في فراغ، بل في ميدان مليء بالقوى والتناقضات الطبقية. وبذلك، تحرم الانعزالية الحركة من التأثير العملي، وتترك الجماهير فريسة للقوى الإصلاحية، كما تحوّل النقاشات النظرية إلى بديل وهمي عن النضال الحقيقي. وتتفاقم الأزمة حين تنتهي الانعزالية إلى مهادنة سرية مع القوى الرجعية بحجة "موازنة القوى"، فيفقد الخطاب الثوري مصداقيته، وتتسع الفجوة بين القيادة والجماهير، ليصبح الانعزال عقبة أمام أي تقدم فعلي للحركة.
البديل الماركسي يكمن في بناء قوة طبقية مستقلة، قادرة على خوض التحالفات من موقع قوة ووضوح، دون التنازل عن المبادئ الجوهرية للثورة. ويتطلب ذلك تنظيم الجماهير في نقابات واتحادات ولجان قاعدية، بحيث تصبح المشاركة الجماهيرية ضمانة ضد الذوبان في التحالفات أو العزلة عن الواقع. فالتحالفات التكتيكية ليست رفاهية بل ضرورة، شرط أن تكون مشروطة بسيادة المبادئ وحماية حقوق الجماهير الاقتصادية والسياسية. وبذلك، يصبح العمل الميداني المنظم والتحليل الطبقي الدقيق أساسًا لمواجهة خصوم الثورة، بينما يوفر تطوير القوة المستقلة عبر المشاركة الجماهيرية شروطًا لتحقيق مكاسب ملموسة، ويحوّل النضال من مجرد شعارات إلى ممارسة ثورية فعلية.
تقدم التجارب التاريخية دروسًا حية؛ فالثورة البلشفية بقيادة فلاديمير لينين أثبتت أن بناء قوة مستقلة للعمال والفلاحين، مع الدخول في تحالفات تكتيكية محددة دون التخلي عن المبادئ، هو الطريق إلى النصر. بالمقابل، أدت صلابة بعض الأحزاب الاشتراكية الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى إلى عزلة وهزيمة أمام القوى الفاشية، فيما أبرزت ثورة كوبا بقيادة كاسترو وتشي غيفارا أن المشاركة الشعبية الواسعة مع الحفاظ على الاستقلالية التنظيمية تحقق مكتسبات ملموسة للفئات الشعبية. كما تؤكد التجارب في العالم العربي أن غياب القيادة الطبقية المستقلة يفضي إلى إفشال الثورات؛ ففي مصر وتونس أدى الانقسام بين الانتهازية والانفصالية إلى حرمان الجماهير من قيادة فعّالة، وفي لبنان وسوريا تحولت بعض التنظيمات إلى أدوات في صراعات الآخرين أو انعزلت عن الواقع، بينما أظهرت تجارب الجزائر والمغرب أن التنازل عن المبادئ يفرغ الحركة من محتواها الطبقي.
الخلاصة المستخلصة من هذه التجارب هي أن الانتهازية والانعزالية مرضان مزمنان يفتكان بالحركة الثورية إذا لم تُواجَها بقوة طبقية مستقلة. فالثورة لا تُنجز بالشعارات وحدها، بل بالقدرة على تنظيم الجماهير، تحليل الواقع، وخوض التحالفات التكتيكية من موقع قوة، مع الحفاظ على المبادئ الجوهرية. المستقبل الحقيقي لليسار الثوري مرتبط بقدرته على تجاوز الانقسامات والانحرافات، وعقد مصالحة بين النظرية والممارسة، بين القيادة والقواعد، وبين الحلم والواقع، وهذا الجمع يمثل الفن الأعلى للسياسة الثورية والسبيل لبناء يسار قادر على قيادة معارك التحرر وتحقيق التغيير الحقيقي. كما أكد فلاديمير لينين: "الثورة لا تُنجز بالشعارات وحدها، بل بالقدرة على التفاعل مع الواقع وتحويل القوى الشعبية إلى قوة عملية حقيقية".
النضال مستمر،،