الأرستقراطيه المقاتله..من بدر الى معركة شرقاط...ج5


ليث الجادر
2025 / 9 / 1 - 12:52     

الفصل الثالث عشر: الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة – النهاية الدرامية للأرستقراطية المقاتلة

13.1 العثمانيون والحرب الكبرى

حين دخلت الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى (1914)، كان ذلك أشبه بآخر رهان على البقاء. التحالف مع ألمانيا لم يكن خيارًا حرًا بقدر ما كان ضرورة وجودية؛ فالإمبراطورية كانت قد تآكلت بفعل الهزائم السابقة، والثورات القومية، والانكماش الاقتصادي.
لكن القيادة الفعلية لم تظل بيد السلطان، بل انتقلت إلى الطغمة العسكرية–القومية الجديدة الممثلة في ثلاثية: أنور باشا، جمال باشا، وطلعت باشا. هؤلاء الضباط، أبناء حركة "تركيا الفتاة"، جعلوا من الحرب مشروعًا لإحياء "المجد التركي" أكثر منه مشروعًا لإنقاذ الخلافة الإسلامية.

هكذا تحولت الإمبراطورية كلها إلى آلة عسكرية قومية، تدار بالحديد والنار، وتسير على أوهام الانتصار الشامل.
13.2 عسكرة المجتمع

فرضت الحرب تعبئة شاملة:

ملايين الفلاحين والعمال جُندوا في الجيش دون أي ضمانات.

النساء أُجبرن على سد فراغ الزراعة والصناعة بعد تغييب الرجال.

المدن والقرى عاشت تحت وطأة المجاعة ونقص الإمدادات، بينما استأثر الجيش بالموارد.

بهذا أصبح الجيش هو الطبقة العليا الوحيدة تقريبًا، ممسكًا بزمام الدولة والمجتمع معًا.

13.3 الإسلام والخلافة كسلاح دعائي

رغم الطابع القومي للقيادة، حاولت الدولة استثمار الإسلام سياسيًا. فأعلن السلطان–الخليفة الجهاد ضد الحلفاء عام 1914.
لكن الدعوة جاءت باهتة: العرب لم يعودوا يرون أنفسهم مجرد رعايا للباب العالي، والقوميات البلقانية كانت قد انفصلت منذ عقود، بينما استنزفت المجاعة والضرائب القسرية أي استعداد للتضحية.
كان واضحًا أن "الإسلام السلطاني" فقد مفعوله التاريخي، ولم يعد أكثر من شعار فارغ أمام قسوة الحرب.

13.4 التناقضات القومية والداخلية

الحرب فجرت تناقضات الإمبراطورية:

العرب تحركوا بقيادة الشريف حسين في "الثورة العربية الكبرى"، معلنين الانفصال عن الباب العالي.

الأرمن تعرضوا لسياسات تهجير وقتل جماعي أدت إلى تفكك المجتمع العثماني نفسه.

الشعوب في الأناضول والبلقان والشرق الأوسط لم تعد ترى في الجيش العثماني "حاميها"، بل آلة قهر واستنزاف.

هذه الانقسامات الداخلية كانت أفتك من مدافع الحلفاء.

13.5 معركة شرقاط (1918) – نهاية الجيش العثماني في المشرق

جاءت معركة شرقاط في أكتوبر 1918 لتكون المسمار الأخير في نعش الوجود العثماني في المشرق.
في هذه المواجهة، انهزم الجيش العثماني أمام القوات البريطانية–الهندية المدعومة من الثورة العربية، وسقطت آخر خطوط الدفاع شمال العراق.
لم تكن مجرد معركة خاسرة؛ بل كانت إعلانًا صريحًا أن الجيش العثماني، الذي ظل لقرون رمز "الأرستقراطية المقاتلة" وذراعها التاريخية، قد فقد القدرة على المقاومة.
مع سقوط شرقاط، لم يعد للعثمانيين وجود عسكري فعّال في العراق أو سوريا، لتبدأ رحلة الانسحاب النهائي من الشرق الأوسط.

13.6 انهيار الأرستقراطية المقاتلة

الهزائم المتتالية، وخصوصًا شرقاط، كشفت أن الأرستقراطية المقاتلة العثمانية لم تعد قادرة على حماية الدولة ولا على احتكار الشرعية.
الجيش الذي وُلد كأداة للفتح والسيطرة منذ صدر الإسلام، واندمج في جهاز الدولة العثمانية كطبقة حاكمة–محاربة، انتهى دوره التاريخي.
مع هزيمة 1918، تفككت آخر رواسب الطبقة العسكرية–الثيوقراطية التي بدأت منذ بدر وحنين، وامتدت عبر القرون في صورة الإنكشارية والجيش النظامي.

13.7 النتيجة – قبر تاريخي لطبقة كاملة

الحرب العالمية الأولى لم تكن مجرد هزيمة سياسية أو فقدان للأراضي؛ كانت القبر النهائي للأرستقراطية المقاتلة.
لم يعد السيف قادرًا على فرض الشرعية، ولم يعد الدين قادرًا على تغطية الهزائم.
تفككت الإمبراطورية، واحتلت أراضيها قوى الاستعمار الأوروبي (بريطانيا، فرنسا، اليونان...).
ومن رمادها سيولد نظام جديد، الجمهورية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، الذي أقام سلطة قومية–علمانية على أنقاض الشرعية الإسلامية–العسكرية التي حكمت قرونًا طويلة.