ميكانيكا الكم والجدل الماركسي!


ادم عربي
2025 / 8 / 31 - 02:56     

بقلم : د . ادم عربي

لا تُولد الثورات العلمية في فراغ، بلْ تنفجر حين تضيق النظريات القائمة عن تفسير الواقع. هكذا جاءت ميكانيكا الكم، لا لتضيف تفصيلاً صغيرا ًإلى فيزياء نيوتن، بلْ لتقلب الطاولة على مفاهيم الحتمية واليقين التي ظن الإنسان أنّه أحرزها نهائيا. لقد انكسرت صورة الكون كآلة منتظمة التروس، وانتقلنا إلى عالم تتلاطم فيه الاحتمالات، ويُصبح فيه الجسيم الواحد في أكثر من حال ومكان في آن واحد في عالم الجسيمات الذرية.
في مطلع القرن العشرين، بدأت شقوق الحتمية الكلاسيكية بالظهور:
بلانك اضطر سنة 1900 إلى افتراض أن الطاقة لا تنبعث متصلة بل على شكل "كمّات".
أينشتاين أوضح في 1905 أن الضوء يمكن أن يتصرف كجسيمات (فوتونات)، لينقض التصور الموجي الخالص.
يمكننا توسيع هذا التوصيف قليلا، فنقول إنَّ لكل جسيم أولي جسيماً مضاداً له؛ فالإلكترون مثلاً يقابله البوزيترون، بينما الفوتون لا ضديد له سوى الفوتون نفسه. ونجد أنَّ الإلكترون والكوارك يمتلكان "كتلة سكونية"، أي كتلة تظل ملازمة لهما حتى في حال توقّفا التام عن الحركة. أمّا الفوتون، فلا يملك سوى "كتلة حركية"، فإذا توقف عن الحركة تماماً زالت كتلته، وبالتالي تلاشى وجوده. كما أنَّ الحركة بحد ذاتها تضيف مقدارا إضافيا من الكتلة إلى كل جسيم ذي "كتلة سكونية". وعند التقاء جسيمين متضادين لهما كتلة سكونية، مثل الإلكترون والبوزيترون، يتحولان إلى طاقة خالصة. في المقابل، إذا تصادم فوتونان، فإن النتيجة تكون تكوين جسيمين متضادين جديدين يحملان "كتلة سكونية".
بور رسم نموذج الذرة حيث لا تدور الإلكترونات كيفما شاءت، بل تقفز بين مدارات محددة.
ثم جاء شرودنغر بهاجسه الموجي، وهايزنبرغ بمبدأ الريبة، وبوهر بتفسير كوبنهاغن. ومنذ ذلك الحين دخلنا فضاءً جديداً، حيث لا يُفهم الواقع عبر "إما هذا أو ذاك"، بل عبر "كلاهما معاً".
تخيّل أنّك تحاول أنْ تكون في مكانين مختلفين في اللحظة نفسها، هل هذا ممكن؟
من هنا يمكننا الوصول إلى تعريف فلسفي للحركة؛ فهي تقوم على تناقض جوهري، إذ لا يمكن فهمها حقاً إذا تجاهلنا هذا التناقض. فمن منظور فلسفي، الجسم المتحرّك يوجد في اللحظة ذاتها في مكانٍ ما، وفي الوقت نفسه لا يوجد فيه؛ أو في اللحظة نفسها، يكون ولا يكون، في الموضع أو الموقع نفسه. وهذا التناقض بالذات هو أساس وجوهر الحركة في المكان.
من الناحية الفلسفية، وخاصةً من منظور الجدل، يمكن فهم الحركة في المكان على أنّها شكلٌ من السكون تمّ نفيه، وفي الوقت نفسه الاحتفاظ به. فالحركة هي نتيجة هذا النفي وهذا الاحتفاظ معاً. أي إنَّ الحركة والسكون ضدّان يجتمعان في وحدةٍ لا تنفصل، ويستمران في صراعٍ دائم يولّد الحركة ذاتها.

الإلكترون ليس هنا أو هناك، بل هو احتمال أن يكون هنا وهناك معاً.
الدالة الموجية لا تقول "المكان"، بل تقول "الاحتمال".
والتراكب الكمي يعني أن الجسيم يمكن أن يوجد في حالتين متناقضتين حتى لحظة القياس.
كأن الطبيعة تسخر من منطق أرسطو الذي يقضي بأن "الشيء لا يمكن أن يكون هو ونقيضه في اللحظة نفسها".
أمثلة عملية على التناقض الكمي:
تجربة الشق المزدوج (Double-slit experiment):
حين يُطلق شعاع من الإلكترونات عبر شقين صغيرين، يظهر على الشاشة خلفهما نمط تداخل موجي، كأن الإلكترون مرّ من الشقين معاً. لكن إذا وُضع كاشف لمعرفة أي شق عبره الإلكترون، يختفي التداخل ويبدو كجسيم عبر شق واحد. أي أن الإلكترون هو "موجة وجسيم" في الوقت نفسه، وينفي أحدهما ويحتفظ به.
مبدأ الريبة لهايزنبرغ:
لا يمكن تحديد موقع الإلكترون وسرعته بدقة في لحظة واحدة. إذا دقّقنا في "المكان"، فقدنا "الزمن"، وإذا دقّقنا في الحركة فقدنا السكون. هذا تجسد مباشر لقانون التناقض: معرفة الشيء كاملاً تعني أن نراه وهو ينقسم إلى نقيضين متصارعين.
النفق الكمي (Quantum tunneling):
الإلكترون أحياناً "يعبر" حاجزاً طاقياً لا يفترض منطقياً أن يتجاوزه. إنه "محبوس" و"غير محبوس" في الوقت نفسه. هذه الظاهرة ليست وهماً بل تُستخدم اليوم في الإلكترونيات (كما في الترانزستورات والمجاهر النفقيّة).
هذه التجارب ليست ألعاباً عقلية، بل واقع مادي ملموس يؤكد أن الطبيعة تحمل التناقضات في صميمها.
الجدل الماركسي: الحركة نفي وإبقاء
الماركسية ترى الحركة على أنها وحدة وصراع الأضداد. السكون ليس نقيض الحركة فحسب، بل هو شكلها الآخر. الشيء لا يُبطل نقيضه، بل يحمله في داخله ويتحدان معاً اتحاد لا انفصام فيه.
وهنا نستذكر قول إنجلز في ديالكتيك الطبيعة:
"الحركة نفسها تناقض، حتى في أبسط أشكالها: الجسم في لحظة معينة موجود في مكان واحد، وفي الوقت نفسه هو في مكان آخر. إنه في المكان نفسه ولا يكون فيه. هذا بالضبط هو التناقض في الحركة".
وهذا ما صاغه ماركس في إحدى مسوداته حين كتب:
"التناقض هو جوهر كل حركة وحياة؛ وبدونه، لكان كل شيء ميتا".
أما تروتسكي فقد أوضح في الدفاع عن الماركسية:
"الديالكتيك لا ينكر التناقضات، بل يعترف بها في كل مظاهر الطبيعة، والمجتمع، والفكر. إن محاولة إلغاء التناقضات أو تجاهلها هي إنكار للحياة ذاتها".
ويأتي لينين ليُرسّخ هذا المبدأ في الدفاتر الفلسفية:
"إن الانقسام إلى نقيضين، ومعرفة أجزائهما المتناقضة، هو جوهر الديالكتيك".
بهذا المعنى، فإن ما يكشفه الإلكترون في حالة التراكب أو النفق الكمي هو نفسه ما يقوله الجدل: إن الطبيعة تُبنى على تضاد داخلي، هو محركها وباعث تحولاتها.
لم تكتفِ ميكانيكا الكم بزعزعة الفيزياء، بل هزّت أيضًا يقيننا الفلسفي. لقد أثبتت أن الواقع أعمق من أن يُختزل في ثنائيات جامدة. التناقض ليس لغزاً يجب حذفه من الفكر، بل هو جوهر الطبيعة نفسها.
هنا يتعانق العلم والفلسفة: في أعماق الذرة، كما في مجرى التاريخ، لا تسير الحركة بخط مستقيم، بل تتقدّم عبر صراع الأضداد. وهكذا يلتقي الإلكترون بجدل ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي: كلهم يُعلنون أن الكون لا يُفهم إلا بوصفه نسيجاً من التناقضات .