الاقتصاد الرقمي: ذروة تطور الرأسمال وانكشاف عبودية القرن الحادي والعشرين
ليث الجادر
2025 / 8 / 14 - 15:01
بينما كان المنجم وحقل النفط هما المستهدفان في سعي رأس المال للوصول إليهما، زاد اعتماد الاقتصاد الرقمي ووسّع هدف الرأسمال ليشمل الإنسان، لا كجماعة فقط بل كأفراد. صار الجهد الموجّه للمنجم أو حقل النفط يمر من خلال احتواء الجماعة والفرد معاً. الاقتصاد الرقمي والتجارة الرقمية يمثّلان ذروة تطور الرأسمال، وفي الوقت نفسه يحملان في طياتهما خفايا انتكاس البشرية إلى عهد عبودية دولية جديدة.
تشير الدراسات الاقتصادية الحديثة إلى أن نسبة الاقتصاد الرقمي في مجمل الناتج المحلي لدول مراكز رأس المال تتصاعد بوتيرة سريعة؛ ففي الولايات المتحدة شكّل الاقتصاد الرقمي نحو 10% من الناتج المحلي عام 2010، ليرتفع إلى أكثر من 15% في 2023، مع توقعات بتجاوزه 20% قبل نهاية العقد. أما في الاتحاد الأوروبي فقد ارتفعت مساهمته من حوالي 7% إلى ما يزيد على 12% خلال الفترة نفسها. هذا التوسع لا يعكس مجرد تنمية قطاع جديد، بل يعيد تشكيل هيكل الإنتاج العالمي بحيث تصبح البيانات، والخدمات الرقمية، ومنصات التجارة الإلكترونية محركات رئيسية للنمو، تحل تدريجياً محل الصناعات المادية التقليدية.
في هذا السياق، يصبح ميزان القوة بين هذه الدول، التي تملك البنية التحتية الرقمية وتقنيات الذكاء الاصطناعي، وبين باقي دول العالم المستهدفة، مختلاً بشكل نهائي؛ إذ لم يعد الصراع على الموارد الطبيعية فقط، بل أصبح أيضاً على السيطرة على البنى الذهنية والسلوكيات الاجتماعية للأفراد. النتيجة هي إعادة إنتاج تبعية أعمق، حيث يتحوّل المستهلك إلى منتِج غير مدفوع الأجر للبيانات، وتتحوّل الدولة الطرفية إلى سوق خام للمعلومات والاستهلاك، في إطار نظام عالمي لا يترك أي هامش سيادي حقيقي.
وفي مستوى الدول المتخلفة، يواجه مفهوم الدولة نفسه خطراً داهمًا؛ فالمواطن بات رقماً استثمارياً بلا مقابل، وأداء مؤسساتها ووزاراتها حين يتحول كلياً إلى النشاط الرقمي، يعني ارتهان عمل الدولة وأسْره من قبل جهات أخرى أو حتى انهياره بفعل كوارث طبيعية أو تهديدات سيبرانية. لقد رُفعت الحصانة تماماً عن إحصاءات الدولة وملفات الشؤون المدنية للمواطنين، وأصبح ما يُروَّج له بحماسة تحت مسمى "الحكومة الرقمية" في كثير من الأحيان فخاً يهدد أمنها الاقتصادي والاجتماعي على حد سواء.
هذا الانكشاف الرقمي لا ينفصل عن الصراع الجيوسياسي الأوسع، حيث يعيد الرأسمال الرقمي إنتاج الجغرافيا القديمة تحت شروط جديدة. فالممرات البرية والبحرية، التي كانت في الماضي مجرد طرق للموارد أو الأسواق، باتت اليوم شرايين للتحكم في تدفقات البيانات والطاقة معاً. السيطرة على هذه الممرات — من قناة السويس إلى زنغزور، ومن موانئ شرق أفريقيا إلى طرق آسيا الوسطى — لم تعد مسألة لوجستية فحسب، بل أداة ضغط على اقتصادات الدول الطرفية وإخضاعها رقمياً. وبذلك يتكامل الاستحواذ على البنية التحتية الرقمية داخل هذه الدول مع السيطرة على منافذها الجغرافية، لتصبح الهيمنة شاملة: جغرافية–رقمية–سياسية.
استشراف المآلات
إذا استمر هذا المسار دون مقاومة، فإننا نتجه نحو نظام عالمي تكون فيه السيادة الوطنية شكلاً بلا مضمون، حيث تتحوّل الحكومات إلى واجهات إدارية لسلطات اقتصادية رقمية عابرة للحدود. ستصبح الحدود السياسية مجرد خطوط على الخرائط، فيما تتحكم خوارزميات وأسواق رقمية مغلقة في توزيع الثروة، وإدارة الموارد، وحتى في تشكيل القيم وأنماط الحياة. وفي غياب استراتيجية واعية للدفاع الرقمي والسيادة المعرفية، قد نجد أنفسنا أمام مرحلة تاريخية جديدة تُدار فيها البشرية من خلال منصات وشبكات، لا من خلال دول وشعوب، لتكتمل بذلك دورة تحول الرأسمال من السيطرة على الأرض إلى السيطرة على الإنسان كلياً.