1. البرجوازية الصغيرة: الموقع الطبقي ووظيفتها في الصراع الاجتماعي
عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 8 / 12 - 13:28
تتشكل البرجوازية الصغيرة من الشرائح الاجتماعية التي تقع في موقع وسيط بين الرأسمال الكبير والطبقة العاملة، مثل أصحاب المشاريع الصغيرة، والحرفيين، والفلاحين المتوسطين، وموظفي الإدارة الوسطى، والمثقفين. هذا الموقع الاقتصادي يجعلها طبقة هشّة ومتناقضة، لا تمتلك وسائل الإنتاج الكبرى التي تضعها في صف البرجوازية، ولا تبيع قوة عملها بشكل أساسي كالبروليتاريا. إنها تعيش على هامش النظام الرأسمالي، مهددة بالتدهور إلى صفوف العمال بفعل الأزمات وتمركز رأس المال، وفي الوقت نفسه تحلم بالصعود إلى مصاف البرجوازية الكبيرة، حلمًا غالبًا ما يظل بعيد المنال. هذا التأرجح بين الخوف من الانحدار والطموح نحو الصعود يخلق وعيًا طبقيًا مترددًا يميل إلى التوفيقية والبحث عن حلول وسط، بدلًا من تبني قطيعة جذرية مع النظام القائم.
فبينما قد تنخرط البرجوازية الصغيرة في مراحل معينة من النضال ضد الاستبداد أو الإمبريالية، فإنها تميل إلى الإصلاح بدل الثورة، وتفضّل خطابًا شعبويًا يركز على المطالب المباشرة دون ربطها بالتحليل الطبقي الصارم. في انتفاضة 1848 الأوروبية، مثلًا، لعبت هذه الطبقة دورًا بارزًا في إطلاق الاحتجاجات، لكنها سرعان ما انسحبت حين طالبت البروليتاريا بإصلاحات اقتصادية تهدد الملكية الخاصة الصغيرة. هذا ما يجعلها قوة غير مستقرة في الصراع الطبقي، قادرة على حمل شعارات ثورية مؤقتًا، لكنها تحمل في عمقها خوفًا غريزيًا من انهيار النظام الاجتماعي الذي يمنحها مكانتها.
حين تتسلل البرجوازية الصغيرة إلى قيادة الأحزاب الثورية، غالبًا ما تعيد صياغة استراتيجياتها لتصبح أقل حدة وأكثر قابلية للتوافق مع القوى الطبقية الأخرى، مستخدمة شعارات مثل "الوحدة الوطنية" أو "الانتقال السلمي". النتيجة الحتمية هي إفراغ المشروع الثوري من محتواه الطبقي، وتحويله إلى قوة إصلاحية عاجزة عن قيادة النضال ضد رأس المال. تجربة العديد من الأحزاب الشيوعية في القرن العشرين، التي تحولت من قوى ثورية إلى قوى برلمانية إصلاحية، تكشف هذا الانحراف حين تغلب مصالح البرجوازية الصغيرة على القيادة. وكما بيّن ماركس، فإنّ هذه الطبقة، بحكم موقعها، "لا تستطيع تمثيل مصالحها المستقلة إلا بقدر ما تُمثَّل مصالحها كإمكانية عابرة في حركة التاريخ". كما قال إنجلز، فإنّ البرجوازية الصغيرة "تحارب الغول البرجوازي الكبير من جهة، وتخاف شبح البروليتاري من جهة أخرى". إنّ هذا الخوف المزدوج هو ما يضعها دائمًا في موقف المتردد.
مع التحولات الاقتصادية المعاصرة، خصوصًا صعود الاقتصاد الرقمي والعمل الحر عبر المنصات الإلكترونية، برزت شرائح جديدة من البرجوازية الصغيرة: العاملون المستقلون على الإنترنت، أصحاب المتاجر الرقمية، مصممو المحتوى، وسائقو التطبيقات. هؤلاء، رغم امتلاكهم أدوات إنتاج فردية أو محدودة، يظلون معتمدين على بنى احتكارية تسيطر عليها شركات عملاقة، مما يجعل وضعهم أكثر هشاشة من نظرائهم التقليديين. الإحصاءات الصادرة عن منظمة العمل الدولية تشير إلى أن أكثر من 46% من العاملين في هذا القطاع يفتقرون للحماية الاجتماعية، وأن معدلات الدخل فيه غير مستقرة، ما يعيد إنتاج التناقض التاريخي بين طموح الصعود والخوف من السقوط.
البعد الجندري هنا أساسي لفهم ديناميات هذه الطبقة. فالنساء في البرجوازية الصغيرة، خاصة في قطاعات المشاريع الصغيرة والعمل الرقمي، يعانين من تداخل الاستغلال الطبقي مع الاضطهاد الجندري، حيث يتحملن عبء العمل غير المدفوع في الأسرة إلى جانب العمل المأجور أو المستقل، مع تعرضهن لمستويات أعلى من الهشاشة الاقتصادية. في كثير من السياقات، كما أظهرت دراسات من أمريكا اللاتينية وجنوب آسيا، دفعت هذه الظروف بعض النساء إلى تبني مواقف أكثر راديكالية، بينما دفعت أخريات إلى التمسك بأنماط محافظة لضمان الاستقرار الأسري والاجتماعي.
ليست البرجوازية الصغيرة كتلة متجانسة؛ فالمثقفون الثوريون والفلاحون الفقراء قد يميلون للانخراط في النضال الجذري، خاصة في فترات الصعود الثوري، بينما تميل الشرائح الميسورة أو الأكثر ارتباطًا بالسوق الرأسمالية العالمية إلى مواقف إصلاحية أو حتى رجعية. في الثورة الفيتنامية، مثلًا، لعب المثقفون من البرجوازية الصغيرة دورًا محوريًا في التنظير وتنظيم النضال المسلح، بينما في تجارب أخرى، كما في تشيلي قبل انقلاب 1973، ساهمت قطاعات واسعة من هذه الطبقة في إبطاء الاندفاعة الثورية خوفًا على مصالحها.
في العالم الثالث، تتخذ البرجوازية الصغيرة أدوارًا متناقضة في سياقات التحرر الوطني. في الجزائر، انخرطت شرائح واسعة منها في الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي، لكنها في مرحلة ما بعد الاستقلال أصبحت قاعدة اجتماعية لسياسات رأسمالية الدولة التي همّشت البروليتاريا. في نيكاراغوا، ساهمت البرجوازية الصغيرة في إسقاط الديكتاتورية السوموزية، لكن بعد النصر، دفعت بعض قطاعاتها باتجاه التسويات مع رأس المال المحلي والعالمي، ما أضعف المشروع السانديني.
هذه الأمثلة، معطوفة على التحولات المعاصرة، تؤكد أن فهم البرجوازية الصغيرة يتطلب تحليلًا دقيقًا يراعي اختلاف شرائحها، أدوارها التاريخية، وأشكال تحولها في ظل العولمة الرأسمالية. فكما أشار لينين، "التحالف المؤقت مع البرجوازية الصغيرة قد يكون ضروريًا في مراحل معينة، لكن عدم الوعي بطبيعتها المترددة يحوّل هذا التحالف إلى أداة إضعاف للثورة".
"إنّ البرجوازية الصغيرة هي طبقة متحركة، تتردد بين البروليتاريا والبرجوازية الكبيرة، ولذلك يجب أن يُنظر إليها بعين نقدية وحذر".
لينين
النضال مستمر،،