29.الحياد النقابي: شعار فارغ لتصفية المعركة الطبقية
عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 8 / 5 - 18:23
يستخدم شعار "النقابة للجميع" لنزع الطابع الطبقي عن التنظيم النقابي، وتجريده من مهمته التاريخية: أن يكون أداة سياسية في يد الطبقة العاملة. هذا الشعار، في جوهره، هو دعوة إلى تحييد النقابة، أي إخراجها من ساحة الصراع، وتحويلها إلى جهاز خدماتي، تفاوضي، لا يحمل أي مشروع سياسي.
يجد هذا المنطق جذوره في النظرية الليبرالية التي ترى أن النقابة ينبغي أن "تمثل جميع العمال" بصرف النظر عن مواقفهم السياسية أو انتماءاتهم الطبقية. غير أن هذا الادعاء يتجاهل أن موقع العامل داخل العملية الإنتاجية يحدد انحيازه، وأن أي تنظيم لا ينحاز بوضوح ضد سلطة رأس المال يصبح، بالضرورة، جزءًا من منظومتها. فالحياد في سياق الصراع الطبقي ليس موقفًا محايدًا، بل انحياز ضمني للطبقة المهيمنة. وقد أكد لينين في "ما العمل؟" على أن "الاقتصادويين" الذين يريدون أن يقتصر النضال العمالي على المطالب الاقتصادية "تاركين النضال السياسي للبرجوازية"، إنما يكرسون هذا الانحياز.
تاج السر عثمان، كما في مجمل خطه النظري، يكرر هذا الشعار بصياغات متعددة: النقابة كجسم مستقل عن الأحزاب، كفضاء جامع لكل التيارات، كمنصة حوار ديمقراطي. لكن هذه المفردات، التي تبدو تقدمية من حيث الشكل، تفرغ النقابة من مضمونها الثوري. فحين تُجرد النقابة من السياسة، لا تُصبح أكثر ديمقراطية، بل أقل قدرة على المواجهة. يتم فصلها عن مشروع التغيير الاجتماعي، وتحويلها إلى مرفق عام، أشبه باتحاد موظفين.
وليس الأمر جديدًا. فقد واجهت الماركسية منذ بداياتها هذا النوع من التبريرات، التي تُحاول تطبيع الحياد في لحظة تاريخية تتطلب الانحياز الكامل. حين صاغت الثورة الروسية نموذج "السوفييتات" لم تكن تسعى لتشكيل "نقابات للجميع"، بل أدوات مباشرة للسلطة العمالية. وحتى في تجارب أكثر مؤسسية، كالمجالس العمالية في إيطاليا في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، أو في تشيلي السبعينيات تحت حكم أليندي، كانت النقابات تلعب دورًا سياسيًا محوريًا في مواجهة الدولة، لا التحالف معها باسم "الحياد". وفي السودان، تكررت هذه التجربة حين انخرطت بعض الأجسام النقابية في الثورة 2018–2019، لكنها سرعان ما تماهت مع منطق "الحياد" وتحولت إلى أداة توافق مع السلطة الانتقالية، بدل أن تكون أدوات للحسم الثوري.
شعار "الحياد" لا يُستخدم فقط في مواجهة الأحزاب السياسية، بل يُستخدم ضد أي محاولة لتنظيم قاعدة العمال على أسس ثورية. كلما طُرح خيار بناء لجان قاعدية، أو تنسيق مباشر بين العمال في قطاعات الإنتاج، يظهر الخطاب الإصلاحي ملوّحًا بـ"الاستقلالية" و"اللا حزبية" بوصفها شروطًا مسبقة. وفي الحقيقة، لا يُقصد بها سوى منع تسييس الصراع، وتكريس شكل نقابي منزوع الأنياب، يقف على مسافة واحدة من الجلاد والضحية.
النتيجة هي نقابات محنطة، تتقن لغة البيانات، لكنها عاجزة عن حشد إضراب. ترفع شعارات الشفافية، لكنها لا تملك قاعدة تنظيمية. تتغنى بالديمقراطية، لكنها تذوب أمام كل منع قانوني أو ضغط سياسي. نقابات لم تعد تُقاتل، بل تُفاوض من موقع الخضوع. لم تعد تحرّض، بل تدير احتواء الغضب. كل ذلك يتم باسم "الحياد"، و"الجميع"، و"الاستقلالية".
وهنا تكتمل دائرة الترويض. بعد أن تم تفريغ النقابة من طبيعتها الطبقية، وتقييدها عبر القانون، وتمييعها بالشعارات الديمقراطية الشكلية، يصبح من السهل دمجها في جهاز الدولة. لا بوصفها خصمًا، بل كشريك. شريك في إطفاء الغضب، لا إشعاله. شريك في ضبط الشارع، لا تحريره. هذا هو الدور الذي تسعى إليه الإصلاحية النقابية، مهما كانت لغتها يسارية: إعادة النقابة إلى حضن النظام، وتدجين الطبقة العاملة.
لكنّ التاريخ لا يُحرّكه الحياد، بل الانحياز. النقابة، كي تكون أداة تحرر، يجب أن تنحاز. تنحاز للعمال ضد الدولة، للمضربين ضد القانون، للفقراء ضد القوانين الدولية، للثوار ضد المشروعات التوافقية. يجب أن تكون منحازة لحدّ العداء. أن تكون طرفًا في الحرب، لا مراقبًا في مفاوضات. ومن دون هذا الانحياز، لا نقابة، بل جهاز إداري آخر داخل جهاز الدولة البرجوازية.
إنّ هذا المحور لا يسعى فقط لنقد خطاب بعينه، بل لتفكيك البنية الكاملة التي يُبنى عليها المشروع النقابي الإصلاحي. بنية تبدأ من أوهام "الشرعية"، وتمر عبر التعلق بالقوانين الدولية، وتنتهي بترديد شعارات "الحياد" التي تُحوّل التنظيم النقابي من خندق مقاومة إلى صالة انتظار. هذه ليست مجرد انحرافات، بل أعراض لنمط إنتاج سياسي يعيد إنتاج خضوع الطبقة العاملة، ويجب مواجهته كعدو لا كمجرد خطأ في التكتيك.
البديل لا يمر بإصلاح القوانين، ولا بإعادة تدوير نقابة الفئة بدل نقابة المنشأة، ولا بمؤتمر نقابي جديد، ولا بمفاوضة الحكومة على "تمثيل". البديل الوحيد هو بناء تنظيمات قاعدية عمالية، تبدأ من الميدان، لا من النصوص. تنظيمات تنبع من الصراع وتعود إليه. تنظيمات تمارس شرعيتها، لا تطلبها، كما فعلت لجان المقاومة في الثورة السودانية. تنظيمات تُعيد للنقابة معناها الأصلي: أن تكون سلاحًا طبقيًا في يد العمال ضد النظام، لا آلية لدمجهم فيه.
كما قالت روزا لوكسمبورغ:
"حياة النقابة تبدأ حين تعلن الحرب، لا حين توقّع على هدنة مع رأس المال."
بذا ينتهي هذا المحور، غدا المقال الأخير في هذه السلسلة.
النضال مستمر،،