ماركسية بلا ماركس: تفكيك المنهج الزائف في خطاب تاج السر عثمان
عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 8 / 4 - 15:16
ما أورده تاج السر عثمان في مقاله الأخير "ما هي سمات المنهج الماركسي؟" لا يُقدّم سوى عرضٍ متهافت لنصوص مقتبسة من ماركس وإنجلز ولينين مغلّفة بسياق دفاعي متوتر لا يُخفي القلق من النقد الجذري الذي طال خطابه وتحليلاته. المقال بمجمله لا يُمثل إلا محاولة لتجميل الانحراف النظري الذي شاب كتاباته السابقة وتبرير انقطاعه عن الممارسة الثورية الحقيقية لصالح خطاب أداتي، تلفيقي، مُهادن، تم تفكيكه مرارًا في قراءات ماركسية علمية ناقدة.
أول ما يلفت النظر في هذا المقال هو طابعه الخطابي الدفاعي الذي يتوسل الاستشهادات الكبرى من الموروث الماركسي الكلاسيكي دون أي تحليل ملموس أو مادي للواقع الراهن في السودان، ولا للممارسة النظرية ذاتها التي يدّعي تمثيلها. هذا النمط من الاقتباس المتهافت لا يخدم المعرفة بل يحجبها، ولا ينتمي للماركسية بل يختبئ خلفها.
إن تقديمه "لمؤلفاته" بوصفها دراسات ماركسية عن التاريخ السوداني، لا يعفيها من النقد ولا يُحصّنها من التقييم الجدلي. فلا يكفي أن تتناول موضوع "الطبقة العاملة" أو "نظام الرق" لتكون ماركسيًا. فالمنهج لا يُقاس بعنوان الكتاب بل بالموقع النظري الطبقي الذي يصدر عنه التحليل، وبالطريقة التي تُبنى بها الوقائع وتُفسر في سياقها التاريخي المادي لا الإنساني العام أو الثقافوي المُعمم.
تاج السر عثمان لا يُمارس الماركسية بل يستخدمها كمرجعية لغوية لتزيين مقالاته التي تفتقر إلى الصرامة المنهجية، وتخلو من التحليل الطبقي الحقيقي. فحين يتحدث عن الصراع الطبقي لا يُحدد أطرافه داخل التشكيلة الاجتماعية السودانية ولا يُلامس البنية العميقة للعلاقات الاقتصادية، بل يكتفي بعناوين ومصطلحات، ثم ينعطف بسرعة إلى تأريخ خطي تراكمي أشبه بتسجيل الأحداث منه إلى تحليل جدلي.
إن دفاعه عن الماركسية بوصفها لا تملك "حقيقة مطلقة" هو صحيح نظريًا، لكنه يُستخدم هنا كذريعة للتملّص من المسؤولية الفكرية والتنظيمية، وتبرير التحولات الانتهازية التي أصابت الحزب الشيوعي السوداني تاريخيًا، والتي كان تاج السر أحد منظّريها. فالماركسية لا ترفض الحقيقة المطلقة من حيث الجوهر، لكنها ترفض جمودها في قالبٍ مغلق، وتعمل على إنتاجها في حركة جدلية منفتحة، وهو ما لا نجده في مقالات تاج السر التي تستبطن تسليمًا فظًا بالرأسمالية المشوّهة كواقعٍ لا يُقاوم إلا بالتقارير.
خطابه عن "عدم اختزال الواقع في التصورات المسبقة" كلام مرسل، يُخالفه فعله النظري. فكل مقالاته السابقة تُقحم الواقع في قوالب نظرية مسبقة، لا تخضع للتحقق ولا التجريب التاريخي، بل تُستعمل لتبرير التحالفات السياسية التصفوية، ولشرعنة تقليص العمل الثوري إلى نضال مطلبي ونقابي محدود الأفق.
هو لا يُمارس الديالكتيك بل يُحاكيه، ولا يقترب من التحليل المادي التاريخي إلا كمحطة عبور نحو تبرير البرنامج الإصلاحي لحزبه. ومقولته: "الواقع لا يُخضع للنظرية بل النظرية تُخضع للواقع" تختزل الديالكتيك في اتجاه واحد، وكأن النظرية ليست منتجًا للصراع الطبقي ولتاريخ الأفكار، بل تابعًا سلبيًا للوقائع كما تُعرض في نشرات الأخبار أو أوراق البنك الدولي.
أما الحديث عن أن "النظرية تُخصب بالممارسة" فلا يظهر له أثر في كتاباته، لأن خطابه منفصل عن أي ممارسة ثورية حقيقية، وليس نتاجًا لصراع طبقي حي، بل إنتاجًا ثقافيا مُسالِمًا يُراوح في برزخ الماركسية الأكاديمية التي تكتفي بالتحليل دون الفعل، وبالتحليل الساكن لا الجدلي.
ولنأخذ مثلًا مباشرًا من مقاله: يكتب "أن الذي يعلم يجب أن يتعلم"، لكنه لا يُقدّم أي مراجعة حقيقية لأي من تحليلاته السابقة، ولا يعترف بخطأ التوصيفات القديمة للتشكل الطبقي في السودان، أو لأخطاء الحزب التي كان مدافعًا عنها دائمًا في اللحظات المفصلية التي انحاز فيها لخط التعاون الطبقي لا الصراع الطبقي.
الاستشهادات الماركسية التي يكثر منها لم تُؤسس أطروحةً واحدة أصيلة في مقاله، بل جاءت في سياق التزيين، وبقيت بلا عمق جدلي ولا صلة عضوية بنسق التحليل. يقول إن الماركسية علم، لكنه يتعامل معها كأيديولوجيا وعظية تتكرر فيها عبارات "ينبغي أن" و"يجب أن"، دون تفكيك لبنية السلطة ولا آليات الاستغلال ولا النظام العالمي الذي أعاد إنتاج السودان كمجتمع طرفي تابع.
المقال لا يحتوي على تحليل واحد للواقع السوداني اليوم، ولا لحالة الحرب، ولا لوضع الطبقة العاملة، ولا للبرجوازية الكومبرادورية، ولا لتناقضات نمط الإنتاج. هو مجرد إعادة إنتاج سطحية للمفاهيم العامة، بلا مساءلة، بلا صراع، بلا ماركس.
نقول له بوضوح:
المنهج الماركسي ليس هو ما تدّعيه، بل هو ما ترفضه، لأنه يكشف تناقضك، ويضعك حيث تقف حقًا: في موقع الفكر التبريري لا النقدي، في ضفة التحليل المنفصل عن الكفاح، في مساحة الكتابة التي تشتغل كبديل عن التنظيم الثوري لا كأداة لبنائه.
"إن الماركسي ليس من يكرر أقوال ماركس، بل من ينزلها على واقع محدد في موقع محدد من الصراع الطبقي"
النضال مستمر،،