24. إتحاد فوقي: كيف يخدم النظام الأساسي قمع الطبقة العاملة
عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 8 / 1 - 20:47
لم تُولد النقابات البيروقراطية من رحم الطبقة العاملة، بل وُلدت من رحم الدولة. النظام الأساسي للاتحاد المهني للمعلمين السودانيين ليس استثناءً، بل هو النموذج الأم، الصيغة القاعدية التي جرى استنساخها وتعميمها على مختلف المهن: الطب، الهندسة، القانون، الصيدلة، التمريض، البيطريين، المحاسبين، التقنيين، وغيرهم. هذه الوثيقة ليست لائحة تنظيمية بل بيان سلطوي، تم تصميمه بعناية لضمان إعادة إنتاج السيطرة الطبقية عبر قنوات تبدو "مدنية" و"تنظيمية". إنها تعبير صريح عن مشروع الدولة في تدجين أدوات الصراع، وتحييد أي إمكانية لتنظيم قاعدي مستقل.
إن هذا التحليل للنقابة كأداة قمعية يتكامل مع فهمنا لتاريخ النقابات السودانية ذاتها، والتي لم تكن بمعزل عن صراع الدولة مع كل أشكال التنظيم المستقل. ففي مراحل تاريخية مختلفة، تحولت النقابات المهنية من أداة نضالية إلى ذراع بيروقراطي، حيث جرى استيعابها وتفريغها من محتواها الثوري. هذه الأنظمة الأساسية التي نتحدث عنها اليوم لم تُخلق في فراغ، بل هي نتاج طبيعي لسيطرة الدولة على كل مجال عام. ولعل أبرز الأمثلة هو كيف تم استخدام هذه الهياكل نفسها لقمع إضرابات المعلمين في مراحل سابقة، حيث عملت قيادات نقابية مرتبطة بالنظام على شيطنة الإضراب وتخوين المضربين بدلاً من حمايتهم، مما يؤكد أن المشكلة ليست في أفراد القيادات، بل في البنية ذاتها التي تمنحهم هذه السلطة المضادة للطبقة.
لا يعبّر هذا النظام الأساسي عن إرادة القواعد المهنية بل عن إرادة السلطة السياسية. يُعرض على المسجل العام ليقرّه لا على الجمعيات العمومية لتناقشه. لا ينبثق من ممارسات نضالية جماعية، بل يُكتب داخل مكاتب مغلقة بمداد الرضا الرسمي، ويُصادق عليه كأداة لضبط المهنيين لا لتحريرهم. ما نراه هنا ليس تنظيماً قاعدياً بل جهازاً فوقياً وظيفته المركزية هي منع التنظيم الحقيقي من الظهور. إنه تعبير عن بيروقراطية مفرطة تنزع عن النقابة طابعها الطبقي، وتُلبسها لباساً إدارياً خانعاً.
ينطلق النظام من تصور السلطة للنقابة كجهاز من أجهزة الدولة، لا ككيان مستقل للطبقة العاملة. هذا واضح منذ الفصل الأول الذي يحدد الأهداف: "المساهمة في التنمية"، "التعاون مع الجهات الرسمية"، و"المشاركة في المؤتمرات". لا ذكر للإضراب، لا وجود لتحسين شروط العمل أو الأجور، لا دفاع عن المصالح الطبقية. اللغة تكنوقراطية تعيد إنتاج العمال كموظفين في الدولة، لا كطبقة مستغَلة. كما يقول غرامشي: "الهيمنة لا تُمارَس فقط بالعنف، بل بالموافقة"، والمؤسسات "المدنية" مثل النقابات هي أدوات حاسمة في هذا الإقناع.
هذه الوثيقة لا تضع إطارًا لتنظيم حر، بل تُشيّد سجنًا ببيروقراطيًا مغلقًا يُعاد فيه إنتاج الخضوع لا الوعي، الانقياد لا الرفض، الانضباط لا التمرّد. إنها تجسيد صارخ للهيمنة الطبقية داخل النقابة، حيث تُفرض البنية السلطوية من أعلى، ويُعاد تسويقها كـ"إرادة تنظيمية". اللغة المُستخدمة ليست محايدة بل خادعة: تُخفي القمع خلف مصطلحات إدارية جوفاء مثل "التنمية"، و"المهنية"، و"الاستقرار"، بينما الغاية الحقيقية هي شلّ كل إمكانية للتمثيل القاعدي، وكسر ظهر أي مبادرة جماعية مستقلة. ما يُعرض كحق، ليس إلا أداة سيطرة، وما يُمنح كتنظيم، ليس إلا قيدًا مصوغًا بلسان ناعم. إنها آلية لإفراغ الصراع من مضمونه، وتحويل النقابة إلى نسخة باهتة من الدولة، حيث يُعاد إنتاج السيطرة بآليات بيروقراطية تبدو "مدنية" لكنها تخدم بوضوح إعادة إنتاج الانقسام الطبقي في أروقة العمل والمؤسسات.
ينص النظام الأساسي على شروط عضوية لا تستند إلى الانتماء الطبقي أو المشاركة النضالية، بل إلى السلوك والانضباط. على العضو أن يلتزم بـ"آداب المهنة"، وألا "يسيء لسمعة الاتحاد"، وأن يدفع الاشتراكات. لا ضمان للحق في الاختلاف، لا حماية لمن يُعارض. بل هناك نصوص تُشرعن الفصل والعقوبات التأديبية بلا آلية ديمقراطية للمراجعة أو الاعتراض. هذا ليس سوى منطق الدولة البوليسية وقد تسلل إلى جسد النقابة.
فصل العقوبات ليس استثناء، بل هو ذروة البنية القمعية. العقوبات تتدرج من التوبيخ إلى الفصل، وكلها تُفرض من الأعلى على القاعدة، دون ضمانات حقيقية. تُمنح القيادة سلطات شبه مطلقة، دون محاسبة أو تفويض مباشر. هذه المركزية المطلقة تُنتج بيروقراطية منفصلة عن القواعد، تمثل ذاتها لا من تمثلهم. هنا يتجلى تحذير روزا لوكسمبورغ بوضوح: "حين تنفصل القيادة عن القواعد تتحول النقابة إلى أداة قمع مضادة."
لا تُوجد في هذا النظام آلية ديمقراطية فعلية. المؤتمر العام، المجلس، المكتب التنفيذي... كلها هياكل تمثيلية شكلية، يتم اختيارها عبر ترشيحات متحكَّم بها وتُعتمد عبر تصعيد مغلق. التمثيل هنا عددي، لا سياسي. يُقاس بالكم لا بالنوعية النضالية. هذه البنية تعيد إنتاج المركزية البيروقراطية في أبشع صورها، حيث تتجمع كل السلطة في القمة وتُلغى سلطة القاعدة تماماً. إنها تحريف تام لمبدأ المركزية الديمقراطية الذي نادى به لينين، والذي يقوم على أساس حرية النقاش في القاعدة ووحدة القرار في القمة. في هذا النظام، تُختزل الديمقراطية إلى إجراءات إدارية، وتُفرغ من مضمونها التحرري. لا وجود للجان قاعدية، لا سلطة للورش والمدارس والمستشفيات، فقط هرم بيروقراطي يُنتج ذاته.
التمويل مركزي قسري: يُخصم من رواتب العاملين دون استشارتهم، ويُدار من القمة بلا رقابة قاعدية. هذا يُعيد إنتاج علاقة مغتربة بين العضو والنقابة. العلاقة هنا شبيهة بعلاقة الموظف بضرائبه: تُؤخذ منه ولا يعرف أين تُصرف، ولا رأي له في كيفية إدارتها. في هذا تكرار لنموذج الدولة في أبشع صوره داخل النقابة.
الأداة الأخطر تبقى بيد المسجل العام. سلطة الحل، اعتماد التعديلات، الفصل، اعتماد المجلس التنفيذي، مراجعة الميزانية... كلها محفوظة لهذا المنصب غير المنتخب، المعين من الدولة، الذي يقف فعلياً على قمة النقابة كأداة مراقبة ومصادرة. وجود المسجل العام كطرف مركزي يُفقد النقابة أي استقلال حقيقي، ويجعل من التنظيم المهني جهازًا من أجهزة الدولة.
النقابة في هذا النظام لا تُنتج الوعي، بل تُنتج الطاعة. لا تُعزز التضامن، بل تُعزز التنافس الفردي. لا تُحصن من القمع، بل تُمارس القمع. لا تعكس الإرادة الجماهيرية بل تُملي عليها ما يجب أن تريده. كما يقول ماو تسي تونغ: "البيروقراطية تولد طبقة جديدة داخل الثورة"، وهنا تولد طبقة داخل النقابة تُعيد إنتاج السيطرة باسم التمثيل.
هذا النموذج لم يُفرض على المعلمين وحدهم. بل هو النموذج الذي تم نسخه وتعميمه على باقي المهن. ما جرى مع المعلمين ليس حالة استثنائية، بل النموذج القاعدي الذي وُضع ليُعمم. ولهذا فإن نقدنا لهذا النظام لا يخص قطاعًا واحدًا بل يشمل البنية بأكملها.
المخرج ليس في الإصلاح، لأن هذا النظام صُمم ليُقاوم الإصلاح. لا يمكن تحويل أداة قمع إلى أداة تحرر بمجرد تعديل مواد. لا يمكن لهيكل صُمم ليعزل القواعد أن يُصبح ديمقراطيًا فجأة. كما يقول ماركس: "لا تُحرر الطبقة العاملة إلا عبر تحطيم أدوات السيطرة التي تُقمع بها". وهذا النظام أحد هذه الأدوات.
علينا أن نبدأ من جديد، من القاعدة، من لجان مستقلة تُبنى من مواقع العمل لا من فوق. لجان تُبنى على أساس المطالب لا على أساس التمثيل الشكلي. لجان تُنتخب وتُحاسب وتُعزل، لا تُعين وتصعد وتتكلس. لجان تُمارس الصراع لا الإدارة. لجان تفهم أن النقابة ليست بيتًا للعائلة بل سلاحًا في يد الطبقة.
إن بناء التنظيم المهني الثوري لا يبدأ من إصلاح اللوائح بل من تنظيم القواعد. من إعادة تعريف النقابة كأداة صراع، لا كجهاز خدمات. كحركة، لا كمؤسسة. لا بد أن نعيد التذكير بأن التنظيم لا يكون ثوريًا إلا إذا كان ديمقراطيًا من الجذور، وأن الديمقراطية لا تُهدى بل تُنتزع.
كما قالت روزا لوكسمبورغ: "الحرية فقط لمن يختلف معنا، لا لمن يوافقنا". هذه النقابة لا تمنح حرية حتى لمن يوافقها. إنها جهاز لإعادة إنتاج السيطرة، ويجب أن تُزال بالكامل.
"إن الجماهير التي لا تخلق أدوات تحررها بأيديها، محكومٌ عليها أن تخدم أدوات قمعها بدمها" فلاديمير لينين
النضال مستمر،،