20. صراع البرامج والطبقات: نقابة تابعة أم أداة تحرر؟
عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 7 / 29 - 07:14
في التجارب النقابية الحقيقية، يكون البرنامج تموضعًا سياسيًا يعبّر عن انحياز طبقي واضح، ويكشف وظيفة التنظيم في لحظة الصراع. ليست القضية ما الذي تطالب به النقابة، بل من أجل من، وضد من، وبأي أدوات. ويمثل البرنامج هنا مرآة للصراع الطبقي الدائر، يُظهر إن كانت النقابة تبني وعيًا تحرريًا من الأسفل، أم تُعيد إنتاج التبعية من الأعلى.
هذا التحديد الجذري للدور النقابي لا يحتمل الميوعة التي تتبناها وثيقة الحزب الشيوعي بعنوان "تجربة الحزب في الحركة النقابية". الوثيقة تصوغ تصورًا للنقابة كمؤسسة وساطة، تبحث عن "استقرار" و"توازن" و"تعاون"، لا كموقع صدام مع علاقات الإنتاج المسيطرة. لغة الوثيقة تخلو من الصراع، وتفيض بالهندسة المؤسسية والتكتيكات التنظيمية، فتبدو أقرب إلى دليل إداري منها إلى مشروع نضالي.
باختزال النقابة إلى ذراع تنفيذية تضبط الإيقاع بين العمال والدولة، يتم انتزاع جوهرها الطبقي بحيث لا يعود البرنامج تعبيرًا عن رفض الواقع، بل يصبح محاولة لتحسين شروطه من داخل منطق الخضوع ذاته. تقول الوثيقة:
"عمل الحزب على توجيه النقابات للحفاظ على الاستقرار النقابي، ومنع الانجرار خلف الصراعات السياسية التي قد تُفقد الحركة النقابية وحدتها." هذه الصيغة، وإن بدت حريصة على "الوحدة"، غير أنها تنطق بانحياز واضح ضد الصراع. فالوحدة هنا تُختزل إلى تناغم بيروقراطي فوقي، لا إلى توحيد قاعدي يُبنى بالمواجهة. كما أن "منع الانجرار خلف السياسة" ليس إلا تعبيرا ناعما لتجريم الوعي الطبقي، ومصادرة النقابة من أن تكون أداة للصدام مع النظام.
غياب برنامج نقابي تحرري في الوثيقة لا يعني فقط غياب الموقف، بل غياب المشروع. إذ لا يوجد فيها أي تناول جذري لبنية قانون 2004، ولا أي رفض لبنية الاتحاد المهني كمؤسسة تابعة. كما تغيب أي دعوة لتأسيس نقابات قاعدية حقيقية خارج وصاية الدولة، ولا حتى تلميح لإمكانية خرق القانون باسم النضال، كما فعل عمال الموانئ أو لجان المعلمين. كل ما تقترحه الوثيقة هو "التكيف" مع ما هو متاح، وتحقيق مكاسب "ضمن الممكن"، دون مساءلة حدود الممكن نفسه أو من يرسمها.
ينبع هذا الخضوع للممكن من انعدام الرؤية الطبقية. لأن البرنامج الذي لا يُصاغ من موقع الطبقة العاملة، يُصاغ حتمًا من فوقها. وتلك هي النقطة التي تختبر كل خطاب نقابي: هل هو تعبير عن الذات الطبقية في لحظة النضال، أم لغة تسوية تُملى من مراكز القرار وتُدار بتوقيعات مكاتب؟
حين لا تذكر الوثيقة تجارب مثل إسقاط نقابة الميناء الجنوبي، أو الإضرابات القاعدية، أو مقاومة لجان الخدمات لتدخل الدولة، فهي لا تنسى، بل تُقصي. وما يُقصى ليس الحدث، بل الإمكانية التي يحملها: أن التنظيم ممكن خارج بنى الدولة، وأن البرنامج الحقيقي يُكتب في الشارع، لا في المقرات.
كما كتب ماركس في "البيان الشيوعي": "كل نضال طبقي هو صراع سياسي." والمعركة حول البرنامج النقابي ليست استثناءً، بل تجلٍ لهذه الحقيقة. البرنامج الذي لا يتضمن إسقاط قانون 2004، وتأميم مرافق الدولة، وبناء نقابات مستقلة فعليًا من أسفل، هو برنامج للسيطرة لا للتحرر. النقابة التي تصمت على شروط الاستغلال، وتتحدث فقط عن تحسين الأجور، تُدار كـ"مؤسسة خدمات"، لا كمنبر نضال.
أزمة العمل النقابي ليست أزمة ضعف تنظيمي، بل أزمة موقع طبقي. ولهذا فإن المطلوب ليس فقط نقد الوثيقة، بل فضحها بوصفها منتجًا لنمط محدد من العمل النقابي، القائم على الترويض والتكيّف والانضباط، لا على الصدام والانعتاق. النقابة التي لا تُواجه البنية، تُعيد إنتاجها. والنقابة التي لا تُصغ برنامجها من صرخة العامل، تصوغها الدولة من فوق.
وكما قالت روزا لوكسمبورغ "لا توجد نقابة حيادية في مجتمع منقسم طبقيًا. فإما أن تكون أداة تحرر أو تصبح جهاز قمع ناعم باسم التمثيل." فإن كل نقاش حول البرنامج النقابي لا يبدأ من موقع القطيعة مع منظومة العمل الرسمية، ولا يُعيد الاعتبار للقاعدة كمصدر شرعية وحيدة، هو نقاش عقيم. لا يكفي التمسك بالمكاسب، بل لا بد من إعادة تعريف النقابة كأداة لخلخلة السلطة الاقتصادية والسياسية، لا كحلقة وصل بينها وبين من تستغلهم.
"نقابة بلا برنامج طبقي، كجسد بلا روح؛ تتحرك، لكنها لا تُغير شيئًا"
النضال مستمر،،