الوطنية كجدل يمزّق، واللادولة كفراغ مفاهيمي


ليث الجادر
2025 / 7 / 27 - 13:30     

حين تُطرح "الوطنية العراقية" بوصفها مشروعًا سياديًا جامعًا، فإنها لا تُستقبل كإجماع جامع، بل تتفكك مباشرة في الفضاء العام إلى ميدان صراع، لا ميدان توافق. لا تكاد تُذكر في أي سياق سياسي أو ثقافي دون أن تثير سيلًا من الأسئلة التي تفضح عمق الانقسام حول معناها:

أيّ وطن نقصد؟

هل الوطن هو الطائفة الأكبر؟

هل الوطن هو سردية المنتصر؟

هل الدولة وطن أم سلطة فوقية بلا وجدان جمعي؟


في بلد مثل العراق، حيث الهوية ما تزال جرحًا مفتوحًا، لا يستطيع أي طرف أن يطرح مفهوم "الوطنية" دون أن يُوصم فورًا بأنه:

عروبي استعلائي يريد فرض سردية القومية العربية،

أو شعوبي عدواني يعادي العروبة كهوية،

أو شيعي انتقامي يُؤسس للوطن على أنقاض الذاكرة السنية،

أو كردي انتهازي يوظف العراق مؤقتًا إلى حين تحقيق حلمه القومي.


بهذا الشكل، تتحول "الوطنية" إلى حقل ألغام رمزي، لا إلى مساحة بناء مشترك. لا أحد يثق في نوايا الآخر، وكل تعريف للوطن يُقرأ باعتباره مشروع سيطرة مقنّعًا.

ما كان يفترض أن يكون "مشترَكًا سياديًا" صار علامة على الخيانة أو التضليل أو السذاجة.
فالوطنية، بدل أن تكون نقطة انطلاق، تحولت إلى عبء لغوي يجرّ خلفه تاريخًا من الإقصاء، ونوايا الهيمنة، وشكوكًا متبادلة لا تنتهي.

وهنا نصل إلى النتيجة الأخطر:

كلما طُرحت الوطنية، تجدد الجدل حول معناها،
وكلما تجدد الجدل، تعمّق الصدع،
وكلما تعمّق الصدع، تكرّست حالة اللادولة.

من تفكك الوطنية إلى عمق اللادولة

اللادولة في العراق ليست مجرد فساد إداري أو فوضى أمنية أو بطالة اقتصادية. إنها أعمق من ذلك بكثير، إذ تمثل:

أنهيار المعنى نفسه.

إنها لحظة تاريخية تتجلى حين:

ينهار القديم، ولا يولد الجديد،

تتفكك اللغة السياسية والثقافية، دون أن تُستبدل بنسق مفاهيمي جديد،

تُرفع الشعارات الكبرى – مثل "الوطن"، "السيادة"، "الهوية" – لكن بلا حامل اجتماعي مؤمن بها، وبلا اتفاق ضمني على ما تعنيه أصلًا.


اللادولة هي إذًا فراغ مفاهيمي لا مؤسسي فقط.
وحين لا يتوفر مشروع جامع للانتماء، ولا رؤية متفق عليها لمفهوم "العراق" نفسه، تصبح كل محاولة لبناء مشروع جديد:

إما تكرارًا للماضي لكن بوجوه جديدة،

أو استنساخًا لنفس منظومة الهيمنة والخطاب، مع تغييرات شكلية،

أو مجرد ردة فعل هووية بلا قدرة على إنتاج بديل جامع.


لهذا، فإن أي مشروع سياسي يُطرَح بوصفه "جديدًا" سرعان ما ينهار تحت وطأة اللغة الموروثة، التي لا تزال مشبعة بالاستقطاب التاريخي، والخطابات الانتقامية، والرغبة في الهيمنة. لا يُمكن تشخيص الجديد لأنه لم يُصغ بعد، ولا يمكن تصوّره إلا باعتباره إعادة إنتاج للقديم باسم آخر.

في هذا المعنى العميق، اللادولة العراقية هي نتيجة مباشرة لعجز وطني جماعي عن صياغة معنى مشترك للوطن.
وهي لا تشير فقط إلى غياب سلطة فاعلة، بل إلى انعدام مشروع جامع للانتماء والاعتراف المتبادل.

ولهذا، لا يُمكن الحديث عن بناء دولة قبل أن نُعيد الإمساك بالخيط الأول:

تفكيك هذا الفراغ، والاتفاق على معنى الوطن ذاته.