قراءة سريعة في خطاب الحزب الشيوعي الأمريكي إلى الحزب الشيوعي الصيني ديسمبر ١٩٧٨


حسين محمود التلاوي
2025 / 7 / 15 - 15:23     

في ديسمبر عام ١٩٧٨ أرسل الحزب الشيوعي الأمريكي خطابًا "غاضبًا" إلى الحزب الشيوعي الصيني بسبب ما سمَّاه الحزب الشيوعي الأمريكي "دعم الحزب الشيوعي الصيني للقوى الرجعية" حول العالم. ونشرت الصحف العالمية الخطاب في يناير التالي.
في واقع الأمر كان هذا الخطاب لافتًا للنظر في حدة نبرته، بل في موضوعه من الأساس، وبعد نحو خمسين عامًا على نشره، يمكن القول إن له الكثير من الدلالات على واقع الحركة الشيوعية العالمية ومسارها في تلك الفترة، بل كذلك على ما آلت إليه الحرب الباردة من انتصار للكتلة الغربية الرأسمالية على الكتلة الشرقية الشيوعية.
ما الأمر؟!
في البداية يتعين ذكر مضمون الخطاب لتوضيح الأمور أمام القارئ، ثم الانتقال إلى الدلالات المحتملة له.
الخطاب موجه من الحزب الشيوعي الأمريكي إلى الحزب الشيوعي الصيني بهدف الوصول إلى إجابات عن بعض التساؤلات حول سلوك الحزب الشيوعي الصيني في العديد من القضايا الدولية التي بدا أن الحزب الصيني فيها يدعم قوى الرجعية، ويتحالف مع القوى الإمبريالية العالمية ممثلةً في الولايات المتحدة.
من هذه القضايا الانقلاب الذي شهدته شيلي ضد حكم الرئيس "سلفادور أليندي" الذي كان تقدميًّا يحظى بدعم شعبي هائل لدرجة استشعرت معها الولايات المتحدة الخطر على مصالحها في أمريكا اللاتينية التي تمثل "الحديقة الخلفية" للولايات المتحدة.
وقع انقلاب نظمته المخابرات المركزية الأمريكية بالتعاون مع بعض القادة العسكريين، ووقعت "مذابح بشعة" ضد التقدميين وقوى اليسار في شيلي حتى إن عظامهم كانت تتكدس "في حفر مظلمة".
ووفق خطاب الحزب الشيوعي الأمريكي، فقد سارع الحزب الشيوعي الصيني إلى الاعتراف الدبلوماسي بالحكومة الجديدة التي تأسست في شيلي، وطردت السفير الشيلي لدى الصين، الذي كان مواليًا لنظام "أليندي" بـ"القوة البدنية".
الأمر نفسه حدث في السودان التي شهدت انقلابًا من قوى رجعية على الحكومة التقدمية التي كانت تعد بالرخاء والاستقرار في السودان؛ حيث أرسلت الصين بعثة تجارية إلى السودان في أعقاب استقرار الأمر بعد الانقلاب.
وما جرى في شيلي السودان جرى في أماكن أخرى حول العالم؛ من بينها أنجولا وبنجلاديش حسبما جاء في خطاب الحزب الشيوعي الأمريكي؛ حيث شهدت العديد من الوقائع اصطفاف الحزب الشيوعي الصيني مع القوى الديكتاتورية الرجعية راعية المصالح الأمريكية.
ما السبب؟!
لا يغفل خطاب الحزب الشيوعي الأمريكي عن المرور على أسباب تلك المواقف "الغريبة" و"غير المفهومة" التي يتخذها الحزب الشيوعي الصيني.
ومن بين الأسباب عدم رؤية الحزب الشيوعي الصيني للصراع بين الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية الصراعَ الرئيسي المحرك للتاريخ؛ حيث تجاهل الحزب الشيوعي الصيني للدور المهم الذي وضعه التاريخ للطبقة العاملة. فوفق ما ورد في الخطاب، كان الحزب الشيوعي الصيني يرى أن العالم مليء بالصراعات والتناقضات، وأن التناقض بين الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية ليس التناقض الوحيد.
سبب آخر يرجع كذلك الى رؤى الحزب الشيوعي الصيني؛ وهو أنه كان منقسمًا بين حطين رئيسيين؛ الأول يرى أن الصراع بين الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية، والثاني ينطلق من مصالح قومية ضيقة. ويشير الخطاب إلى أن التيار الثاني يتزعمه "ماو تسي تونج" الذي يتخذ مواقف "لا يمكن تفسيرها بأي كل وفق الماركسية اللينينية".
من بين الأسباب الأخرى التي يرى الحزب الشيوعي الأمريكي أنها وراء مواقف الحزب الشيوعي الصيني، المتنافية مع الأفكار والرؤى التقدمية، الخلاف بين الصين والاتحاد السوفييتي؛ حيث وصل الأمر إلى أن القادة الصينيين يرون أن "الاتحاد السوفييتي يحضر لهجوم ضد الصين". ويدحض الخطاب الهواجس الصينية؛ حيث يذكر أن الاتحاد السوفييتي طالب الصين مرارًا وتكرارًا بالجلوس والعمل على حل كل المشكلات العالقة بين الطرفين.
كذلك يقول الخطاب إن الاتحاد السوفييتي حوَّل مخزون أسلحة جيوشه التي انتصرت على الجيوش اليابانية في منشوريا (وكانت من أفضل الوحدات تسليحًا وتدريبًا في الجيش الياباني) إلى الحزب الشيوعي الصيني.
ويرى الخطاب أن هذه القناعة الصينية كانت وراء تأييد الحزب الشيوعي الصيني لمطالب القوى الإمبريالية بعدم وقف سباق التسلح في العالم؛ وهو السباق الذي يمثل حجر عثرة رئيسي أمام إحلال السلام حول العالم.
ما الدلالات؟
بعد نحو نصف قرن
لم يتوافر رد الحزب الشيوعي على ما ورد من "استفسارات" ترقى إلى مستوى الاتهامات في خطاب الحزب الشيوعي الأمريكي.
لكن بعيدًا عن الرد الأمريكي من عدمه، كان لهذا الخطاب دلالاته على المسار الذي وصلت إليه الحركة الشيوعية العالمية بانهيار الاتحاد السوفييتي، وتفكك الكتلة الشرقية، مع استمرار الصين وبعض القوى الشيوعية الأخرى مثل كوريا الشمالية وكوبا.
من بين الدلالات أن الانقسامات كانت حادة بين الشيوعية، ولك تتمكن من تجاوزها لتكوين تكتل شيوعي موحد، على عكس ما جرى في الكتلة الرأسمالية التي تجاوزت التناقضات الداخلية، وقفزت فوق الخلافات التاريخية لتشكِّل كتلة رأسمالية لا تزال موحدة إلى الآن، على الرغم من كل التباينات والتناقضات الداخلية التي برزت في العديد من القضايا خاصة بعد عودة الرئيس الأمريكي "دونالد ترمب" إلى البيت الأبيض. ومن بين أوجه هذه الخلافات العملية الخاصة الروسية في أوكرانيا، وقضية الرسوم الجمركية الأمريكية.
نجت الصين من تقلبات الحرب الباردة، وتداعيات انهيار الاتحاد السوفييتي، وربما كان ما ساعدها في ذلك السياسة البراجماتية التي تتبعها الحزب الشيوعي الصيني بالتعامل وفق ما تمليه المصلحة بعيدًا عن الالتزام الحرفي بما ورد في التعاليم الماركسية اللينينية.
لكن في الوقت نفسه كان عدم الالتزام بتلك التعاليم في قلب الاتهامات التي لطالما وجهها الشيوعيون الصينيون إلى رفاقهم السوفييت بأنهم "تحريفيون". كذلك ألم يكن من المحتمل أن يؤدي تكوين جبهة شيوعية موحدة من الصين والاتحاد السوفييتي إلى الحد من فرص تغول الرأسمالية عالميًّا؛ مثلما الحال حاليًّا.
أم أن العالم الشيوعي لا يتحمل وجود قوتين على القدر نفسه من الطموح والقدرة على تحقيقه؛ فكان الحال إما السوفييت أو الصينيين؟!
ملحوظة: استند هذا الموضوع الى الترجمة العربية للخطاب: وهي الترجمة التي صدرت في كتاب بعنوان "رسالة من الحزب الشيوعي الأمريكي إلى الحزب الشيوعي الصيني"، من ترجمة أ. زكي مراد، عن دار الثقافة الجديدة في مصر عام ١٩٧٩.