6. النقابات والثورة: من أكتوبر إلى ما بعد ديسمبر


عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 7 / 15 - 08:36     

لا يمكن الحديث عن تاريخ الحركة النقابية في السودان دون المرور بثورات الجماهير، فالنقابة لم تكن يومًا كيانًا وظيفيًا، بل كانت دومًا جبهة اشتباك سياسي بين مشروعين متناحرين: مشروع التحرر الطبقي من أسفل، ومشروع الضبط البرجوازي من أعلى. وفي كل لحظة ثورية، تمددت النقابات خارج "حدودها المهنية"، وتحوّلت إلى أداة تحشيد شعبي، وتعبئة سياسية، وتنظيم بديل. ومن ثورة أكتوبر 1964، إلى انتفاضة أبريل 1985، وحتى ثورة ديسمبر 2018، أدّت النقابات، بأشكالها المختلفة، أدوارًا مركزية في تفجير الغضب الجماهيري، لكنها أيضًا واجهت المعضلة نفسها: حدود التمثيل البيروقراطي، وخيانة القيادات الوسطية، وتفكك المشروع السياسي بعد سقوط رأس النظام.

في أكتوبر، لعبت نقابات المهنيين (الأطباء، المعلمين، القضاة) دورًا حاسمًا في بناء جبهة معارضة مدنية قادت الإضراب السياسي والعصيان المدني. لكن هذه النقابات، التي كانت متجذّرة في المؤسسات الرسمية، فشلت لاحقًا في الحفاظ على موقعها الطبقي المستقل، وتمّ استيعابها داخل مشروع "الديمقراطية البرجوازية" القصير العمر، الذي أعاد إنتاج السيطرة من خلال النخب والصفقات. وفي أبريل، تكررت التجربة بصيغة أوسع، إذ تحرّكت النقابات ضد دكتاتورية نميري، لكنها، ما إن سقط النظام، حتى بدأت القيادات النقابية في المساومة على المكاسب، وأعيدت البيروقراطية النقابية إلى الواجهة، لتُمهد للنيوليبرالية الجديدة التي فتّتت الحركة النقابية، وخضعت للوصاية الحزبية والسياسية.

أما في ديسمبر، فقد دخلت النقابات الثورية مرحلة جديدة، إذ ظهر "تجمّع المهنيين السودانيين" بوصفه طليعة حقيقية أعادت إلى التنظيم النقابي روحه الأصلية: كأداة نضال سياسي مباشر. لم يكن التجمّع نقابة بالمعنى التقليدي، بل كيانًا شبكيًا قاعديًا، استلهم من تجارب المقاومة المدنية وعبّأ الشارع خارج مؤسسات الدولة، مستفيدًا من انهيار النقابات الرسمية وتاريخ الخيانة الطويل. وقد تمكّن من قيادة المعركة في وجه النظام الإسلاموي، وربط بين المطالب المعيشية والحقوق السياسية، بما أعاد الاعتبار إلى مفهوم "الإضراب السياسي العام" بوصفه ذروة الوعي الطبقي.

لكن، ما إن تمّت الإطاحة بالبشير، حتى بدأ المشروع يتعرض لتفكيك ممنهج من الداخل والخارج. فالقوى السياسية، التي لم تكن ترى في التجمع إلا "جسرًا للانتقال"، عملت على تدجينه وتفريغه من مضمونه الثوري، فيما ظهرت تناقضات داخلية عميقة، بين تيارات إصلاحية ووسطية، وأخرى راديكالية كانت تسعى لتحويل التجمع إلى أداة لبناء جبهة طبقية واسعة. في نهاية المطاف، انهار التجمّع كجسم موحّد، وتحوّل إلى رماد رمزي، تُوظفه قوى متعددة كلٌّ بحسب حاجته. لكن الدرس الأهم من هذه التجربة لا يكمن في "فشل القيادة"، بل في عمق الصراع حول وظيفة النقابة نفسها: هل هي منصة تفاوض، أم أداة تغيير جذري؟

لقد أثبتت الثورة أن الجماهير قادرة على خلق أدواتها، حتى حين تُمنع من التنظيم. فاللجان القاعدية التي تشكلت في أماكن العمل، والمدن، والأحياء، كانت في كثير من الأحيان تتجاوز الأطر النقابية التقليدية، وتقيم علاقات نضالية مباشرة، على أساس المصلحة الطبقية لا التمثيل الرسمي. هذا الشكل من التنظيم الذاتي العفوي، رغم هشاشته، مثّل نواة محتملة لنقابات مستقبلية مقاتلة، تُبنى من أسفل، وترفض كل وصاية فوقية.

ومع ذلك، فإن غياب المشروع السياسي الطبقي الموحّد، وافتقار القوى النقابية إلى رؤية ثورية متماسكة، سمح للبرجوازية بأن تعيد الإمساك بالمشهد، عبر خلق نقابات "توافقية"، وإعادة تدوير البيروقراطية النقابية القديمة، بل وتوظيف القانون لعرقلة أي نقابة مستقلة حقيقية. فالحراك النقابي، حين لا يتجذر في تحليل ماركسي للصراع، يظل معرضًا للانحراف، والتطويع، بل وحتى الاستغلال ضد مصالح العمال ذاتهم.

إن استرجاع الدروس التاريخية من ثورات السودان يُفضي إلى حقيقة واحدة: النقابة ليست كيانًا جاهزًا، بل تُنتزع في خضم المعركة، وتُبنى على قاعدة الوعي الطبقي والتنظيم القاعدي. وإن النضال النقابي لا يكتمل بالإضرابات فقط، بل بتجاوز اللحظة الاحتجاجية نحو البناء السياسي. فكل نقابة لا تربط بين نضالها المطلبي والمشروع الاشتراكي الأوسع، ستظل عُرضة للاستيعاب، وستُفرغ من مضمونها، مهما رفعت من شعارات.

لذلك، فإن بناء نقابات ثورية اليوم لا يعني فقط إعادة إحياء الأشكال القديمة، بل تجاوزها نحو نموذج عضوي، جذري، ديمقراطي، يُعيد للنقابة دورها التاريخي: أداة للتمرّد، لا جسرًا نحو الترويض.

"الثورات تُفجّرها الجماهير، وتجهضها النخب إذا لم تجد تنظيمًا يحرس مكاسبها ويواصل الهجوم."

النضال مستمر،،