النهج الماركسي في مواجهة التجريبية الاقتصادية
ليث الجادر
2025 / 7 / 14 - 20:19
كثيرًا ما يستند أنصار السوق الحرّة والمنافسة إلى قاعدة فلسفية تجريبية ترى أن الواقع يُفهم أساسًا من خلال الملاحظة والتجربة الفردية. هكذا تُقدَّم السياسات الليبرالية وكأنها حقائق موضوعية محايدة، عصية على النقض. لكن التحليل الماركسي يضع هذا التصور موضع مساءلة جذرية؛ إذ يكشف أن تجميع الوقائع الاقتصادية دون تحليل بنيتها الطبقية لا ينتج إلا وعيًا زائفًا يخدم مصالح الفئات المهيمنة.
التجريبية: من الفلسفة إلى الأيديولوجيا
التجريبية الفلسفية نشأت تيارًا معرفيًا يركز على الخبرة الحسية كمصدر أساسي للمعرفة. لكنها حين انتقلت إلى الحقل الاقتصادي، تحوّلت إلى تجريبية براغماتية: أي الاعتماد على بيانات سطحية وتجارب جزئية تُعزل عن البنية الطبقية.
لقد ارتبط الفكر الليبرالي تاريخيًا بهذه النزعة، من «اليد الخفية» عند آدم سميث إلى مفهوم «المنفعة الذاتية» كأساس للعلاقات الاقتصادية. ومع مرور الوقت صارت الملاحظات الفردية معيارًا يُستخدم لتبرير السوق بوصفه نظامًا طبيعيًا يعمل تلقائيًا لتحقيق التوازن والرخاء. لكن هذا التعميم يختزل ظواهر اجتماعية معقدة ويعزلها عن سياقها التاريخي، فيُقدَّم السوق وكأنه قانون كوني يصلح في أي زمان ومكان.
المنهج الماركسي: المادية الجدلية كبديل
يقوم النهج الماركسي على المادية الجدلية التي ترى أن الظواهر الاقتصادية لا تُفهم إلا بتحليل العلاقات الجدلية بين قوى الإنتاج والملكية والعمل المأجور. فلا معنى للأرقام والمؤشرات إن لم يُكشف أثرها على توزيع فائض القيمة والصراع الطبقي.
كما يقول ماركس في «رأس المال»: «رأس المال ميتٌ يعمل كأنه حي، لا يحيا إلا بمص الدم الحي للعمل.» ويقول أيضًا: «ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم.»
بهذه الرؤية، لا يكون نمو الناتج المحلي أو ارتفاع معدلات الاستثمار دليلاً على «نجاح» السوق في حد ذاته، بل قد يخفي تناقضات تُعاد عبرها إنتاج علاقات الاستغلال.
أمثلة واقعية: أسواق تراكِم التناقض
الهند مثال واضح: منذ انفتاحها النيوليبرالي في التسعينيات، حققت نموًا اقتصاديًا مرتفعًا. لكن وفق تقرير «أوكسفام» لعام 2024، يمتلك 1% من الهنود أكثر من 40% من الثروة الوطنية، بينما يعيش مئات الملايين في فقر مدقع. هذه الأرقام تجسّد أطروحة ماركس: «تراكم الثروة في قطبٍ هو في الوقت ذاته تراكمٌ للبؤس في القطب المقابل.»
أمريكا اللاتينية تقدّم صورة مشابهة: ففي دول مثل البرازيل وتشيلي، أدى التحرير الاقتصادي إلى ارتفاع الاستثمارات والأرباح، لكن دون تجاوز الفجوة بين الأحياء الغنية وأحزمة الفقر.
السويد تُستخدم غالبًا لتجميل سردية السوق الحر. لكنها مثال لاقتصاد سوق اجتماعي تطوّر بفعل نضالات عمالية طويلة، واتفاقات إعادة توزيع عادلة للثروة عبر نظام ضرائب تصاعدي ودولة رفاه واسعة. أي إن نجاحها ليس دليلًا على «طبيعية» السوق بقدر ما يكشف كيف يتحدد شكل السوق تاريخيًا عبر توازنات القوى الطبقية.
لماذا يظل النهج الماركسي ضروريًا؟
ما يقدّمه التحليل الماركسي ليس نفورًا من البيانات أو الأرقام؛ بل إعادة تأطيرها ضمن العلاقات البنيوية للصراع الطبقي. فبدلًا من تفسير الظواهر تفسيرًا تجريبيًا سطحيًا، يكشف هذا التحليل كيف يُعاد إنتاج الفقر والتفاوتات داخل آليات السوق. وبهذا يكون تجاوز الأزمات ممكنًا لا بمجرد إصلاح السياسات داخل المنظومة، بل عبر تغيير البنية نفسها.
خاتمة
إن السوق ليس طبيعة أبدية للبشرية، بل شكل تاريخي نشأ ضمن شروط محددة. كل تجربة سوق ناجحة تحتاج إلى تحليل نقدي يكشف القوى الاجتماعية التي تجعلها ممكنة أو مستحيلة. لذلك يظل التحليل الماركسي بما ينطوي عليه من رؤية مادية وجدلية أداة لا غنى عنها لفهم الواقع كما هو وتغييره كما يجب