5. البيروقراطية النقابية: طبقة طفيلية تعيش على تناقضات العمال


عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 7 / 14 - 08:15     

في قلب كل تنظيم نقابي خاضع، تنمو بيروقراطية لا تنتمي تمامًا إلى الطبقة العاملة ولا إلى الطبقة الحاكمة، لكنها تلعب دور الوسيط الذي يضمن بقاء الأولى تحت السيطرة، ويُسهّل للثانية تمرير سياساتها بأقل تكلفة ممكنة. هذه البيروقراطية النقابية ليست خللًا طارئًا، بل هي نتاج تاريخي لبنية الاستغلال ذاتها، تتكاثر حين تنسحب الجماهير من أدواتها، وتتضخم حين يُفرغ النضال من محتواه السياسي، فتتحول النقابة إلى جهاز خدمات، ويُستبدل التمثيل بالكفاءة الإدارية، ويصير النقيب أقرب إلى المدير منه إلى المناضل.

في السياق السوداني، تشكلت البيروقراطية النقابية عبر عقود من التراكم السلطوي، بدءًا من محاولات الأنظمة العسكرية استيعاب النقابات في جهاز الدولة، ومرورًا بتحويلها في عهد مايو إلى ذراع سياسية للاتحاد الاشتراكي، ثم دمجها في مشروع "الحركة الإسلامية" التي صاغت نموذجًا هجينيًا جمع بين الولاء العقائدي والطموح الطبقي. النتيجة كانت نشوء طبقة من "النقابيين المحترفين"، ممن تحولوا إلى نخبة تفاوض باسم العمال، دون أن تعيش ظروفهم أو تنتمي فعليًا لمعاناتهم.

هؤلاء البيروقراطيون لم يكونوا جواسيس صغارًا داخل التنظيمات فحسب، بل أدوات نشطة في كسر شوكة النضال. فقد وقفوا ضد الإضرابات، وساوموا على الحقوق، وسوّقوا سياسات الخصخصة، ورفضوا التنظيم من القاعدة، وباركوا تدخل الدولة في شؤون النقابات. وقد رأينا خلال الثورة، وبعدها، كيف عاد بعض هؤلاء إلى المشهد بوجوه محدثة، تارة بشعارات "إصلاحية"، وتارة باسم "الوحدة"، بينما جوهر مشروعهم لم يتغير: إخضاع النقابة مرة أخرى لخط الدولة، سواء باسم "الانتقال"، أو باسم "الاستقرار"، أو حتى باسم "إنقاذ النقابة من الفوضى".

البيروقراطية النقابية بهذا المعنى تشبه ما وصفه لينين ذات مرة بالطبقة الوسطى المترددة، التي لا تملك الجرأة على الثورة، ولا الشجاعة على الانحياز، فتبقى حبيسة التوفيق والترضيات. وهي تعيش على تناقضات العمال لا لحلها، بل لاستثمارها، فكلما ازداد الإحباط، زاد نفوذها، وكلما تقلصت الديمقراطية القاعدية، اتسع مجال تحكمها، وكلما ارتفعت الأصوات المطالبة بالتنظيم من أسفل، هرعت لإعادة تعريف العمل النقابي وفق شروطها: ممثلون مفوضون، لا مندوبون منتخبون؛ مذكرات تفاوض لا برامج تعبئة؛ علاقات عامة لا صراع طبقي.

تتجلى وظيفة هذه البيروقراطية في طمس التناقض، وتزييف التمثيل، وإعادة إنتاج نقابة شكلية تُستدعى عند اللزوم للتوقيع على اتفاق، أو تهدئة إضراب، أو التغطية على قرار مجحف باسم "الحكمة". وهي لا تختلف جوهريًا عن البيروقراطيات الأخرى التي فضحها ماركس في الكومونة، حين رأى أن الثورة لا تُنجز فقط بإسقاط الحكومة، بل بتدمير الجهاز الإداري الذي يُعيد إنتاج نفس علاقات الهيمنة.

لقد كانت النقابات الثورية في تجارب العالم، من فرنسا 1968 إلى بوليفيا 2000، تدرك أن معركتها ليست فقط مع الدولة أو رأس المال، بل أيضًا مع البنية البيروقراطية داخلها، وأن الاستقلالية لا تعني فقط الابتعاد عن السلطة، بل عن كل نخبة متمصلحة تسعى لإبقاء النقابة "فعالة" بمعايير السلطة، لا بمعايير النضال. وفي السودان، فإن استمرار تغلغل هذه الطبقة النقابية الطفيلية، يهدد كل إمكان لبناء تنظيم قاعدي حقيقي، لأنها تقطع الطريق بين العامل وتنظيمه، وتُصفي الكوادر الجذرية، وتُحبط المبادرات الديمقراطية باسم "اللوائح"، و"الترتيبات"، و"المرحلة".

لذلك، فإن تصفية البيروقراطية النقابية ليست مسألة إدارية، بل مسألة سياسية وثورية من الطراز الأول. فلا يُمكن الحديث عن نقابة مقاتلة دون تفكيك هذه الطبقة الطفيلية التي تحرس الخنوع، وتُدير المساومة، وتُطبع مع القمع باسم الواقعية. وهذا يتطلب أمرين: وعيًا طبقيًا متقدمًا يُدرك أن العدو لا يقف دومًا في الخارج، وتنظيمًا ديمقراطيًا قاعديًا يُحصن النقابة من الاختطاف.

إن النقابة الثورية لا تُدار من فوق، ولا تتحرك بقرارات مفروضة، بل تبنى من أسفل، وتستمد شرعيتها من القواعد، لا من ترخيص الدولة أو رضى البيروقراطي. وهي لا تخشى النزاع، بل تُدرب عليه، لأن الصراع مع البيروقراطية جزء لا يتجزأ من الصراع مع الدولة. وكل من يدعو إلى "توحيد الصف" دون تحريره من نخبه الطفيلية، يُعيد إنتاج نفس الهزيمة، ويُفرغ التنظيم من معناه.

"إن كل جهاز بيروقراطي، حين لا يُسقط، يُعيد إنتاج الدولة في قلب الحركة."

النضال مستمر،،