4. اللجان التمهيدية: اختراق الدولة لجسد الطبقة العاملة


عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 7 / 13 - 08:32     

حين تفقد الدولة السيطرة على الشارع، تلجأ إلى تفكيك أدوات التنظيم، وعندما تعجز عن منع تشكيل النقابات المستقلة بالقوة، فإنها تحاول إعادة هندستها من الداخل. ومن هنا تولد ما يُسمى بـ"اللجان التمهيدية" بوصفها الشكل الأكثر دهاءً لاختراق التنظيم العمالي، لا بمنعه، بل بإعادة تعريفه على أسس خاضعة. هذه اللجان ليست انتقالًا ديمقراطيًا نحو التمثيل القاعدي، كما تدّعي السلطة، بل هي الحاجز الأول بين الطبقة العاملة وحقها في بناء أدواتها الثورية، وهي بذلك تمثل ركيزة حاسمة في بنية القمع الناعم التي تستخدمها البرجوازية السودانية لإعادة إنتاج السيطرة الطبقية في هيئة إدارية.

اللجنة التمهيدية، في القانون النقابي لسنة 2010، تُشكّل بقرار من "المسجل العام للنقابات"، أي من جهة حكومية، لا من القواعد العمالية. والهدف المعلن هو "ترتيب البيت الداخلي"، لكن الهدف الحقيقي هو السيطرة على أي نقابة تُبدي بوادر استقلال. إنها تعيين مباشر من أعلى، يتم فيه فرض تمثيل زائف، غالبًا ما يتكوّن من عناصر بيروقراطية، أو كوادر أمنية سابقة، أو رموز "نقابات الإخوان" ممن خدموا النظام القديم. بهذه الطريقة، يتم تفريغ النقابة من مضمونها الطبقي، وتصبح قناة لضبط العمال لا لتعبئتهم، وسقفًا للغضب لا محركًا له.

في الممارسة، أدت هذه اللجان إلى كوارث تنظيمية وسياسية. ففي قطاعات كالموانئ، والنقل، والتعليم، رأينا كيف أُجهضت محاولات بناء نقابات مستقلة فور تشكّلها، حين تدخلت الدولة بلجنة تمهيدية تتعهد "بتمثيل الجميع"، لكنها في الواقع تُعيد إنتاج خضوع الكل. يُمنع عقد الجمعيات العمومية، وتُجمَّد الاشتراكات، وتُغيّب الديمقراطية الداخلية، بينما تُمرر السياسات الحكومية بهدوء، بما في ذلك الخصخصة، والتسريح، وملاحقة القيادات الجذرية. كل ذلك باسم "الشرعية" و"الترتيب الإداري"، بينما يُختطف التمثيل الحقيقي ويُحوّل إلى مهزلة تنظيمية.

هذا الاختراق لا يعمل بمعزل عن البنية الطبقية للدولة، بل هو جزء منها. فكما أن البرجوازية الطفيلية السودانية لا تطيق وجود تنظيمات مستقلة تهدد مصالحها، فإنها تسعى دائمًا إلى خلق "شركاء" زائفين داخل الصف العمالي. فاللجنة التمهيدية ليست فقط أداة لشل الحركة، بل أيضًا لزرع الوهم بأن التغيير ممكن من داخل القيد، وأن المطالب يمكن تحقيقها دون صراع. إنها آلية استيعاب، وامتصاص، وإفراغ، تعمل على إطالة عمر النظام بتقديم تنازلات شكلية تمنع الانفجار.

وقد كشفت تجربة ما بعد ثورة ديسمبر أن هذه اللجان كانت من أخطر الأدوات المضادة للثورة. ففي الوقت الذي أعادت فيه قطاعات عديدة من العمال تنظيم صفوفها من أسفل، جاءت الدولة عبر وزارة العدل ومسجل النقابات، لتعيّن لجانًا "محايدة" مهمتها الوحيدة كانت تجميد كل نشاط فعلي. وفي بعض الحالات، وُظّفت هذه اللجان لمطاردة النقابيين الثوريين، ورفع بلاغات كيدية ضدهم، بتهم "التحريض"، و"العمل غير المشروع"، بل و"إهانة مؤسسات الدولة". لقد تحوّلت اللجنة من وسيلة انتقالية إلى مؤسسة دائمة، ومن أداة تنظيمية إلى جهاز أمن ناعم.

إن كل من يروّج لهذه اللجان بوصفها مرحلة ضرورية، يتغافل عن أن النقابة الحقيقية لا تُؤسس بقرار إداري، بل تولد من رحم المعركة الطبقية. فكما أن البروليتاريا لا تُحرر نفسها بمرسوم، فإن النقابة لا تُخلق من فوق. وكل تمثيل لا ينبثق من القواعد ليس إلا تمثيلًا مزيفًا، مهما تحلى باللوائح، والاختام، والخطب الرسمية.

وعليه، فإن تفكيك بنية اللجان التمهيدية ليس تفصيلًا قانونيًا، بل معركة مصيرية لاستعادة المبادرة النقابية. إنه نضال ضد سلطة ترى في تنظيم العمال خطرًا وجوديًا، وضد خطاب إصلاحي يزعم الحياد، بينما ينحاز لمصالح رأس المال. ويبدأ هذا التفكيك برفض الاعتراف بأي لجنة غير منتخبة، وتنظيم البديل من أسفل، دون انتظار إذن الدولة أو مباركة الوزير. إن النقابة الثورية لا تُبنى وفق "خارطة طريق" فوقية، بل في الورش، والموانئ، والفصول الدراسية، والمستشفيات، حيث ينتج الكادحون شروط وجودهم، وينتزعون أدوات تحررهم.

"كل تنظيم يُفرض من فوق، لا يمثل الطبقة، بل يمثل من يُعيّنه."

النضال مستمر،،