ترامب وسياسة «الغموض الاستراتيجي»
فهد المضحكي
2025 / 7 / 12 - 17:52
يتبنى الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب نهج «الغموض الاستراتيجي» في سياسته الخارجية، لا سيما تجاه قضايا الشرق الأوسط، في محاولة لإعادة تشكيل معادلات القوة الإقليمية وتعزيز النفوذ الأمريكي ضمن بيئة دولية معقدة ومتشعبة.
نَشرت قناة المعلومات المالية والتجارية «CNBC» عربية، ملفًا خاصًا يتضمن قراءة تتحدث عن نهج ترامب السابق الذكر ( القراءة نُشرت قبل الحرب الإسرائيلية الإيرانية ) ملخصها، تميَّزت سياسة ترامب منذ ولايته الرئاسية الثانية التي بدأت في العشرين من يناير الماضي - بالسعي إلى تحقيق توازن دقيق بين الردع العسكري أو الحلول الخشنة، والدبلوماسية المرنة، واضعًا نصب عينيه هدفين متلازمين: تأكيد الهيمنة الأمريكية على الساحة الإقليمية، وإدارة الضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة.
عمدت الإدارة الأمريكية - وفي نهج مقارب لسياسة ترامب في ولايته الأولى - إلى إرسال إشارات متباينة تهدف إلى إبقاء الخصوم في حالة عدم اليقين، مع الحفاظ على قنوات التواصل مفتوحة مع الحلفاء التقليديين لضمان تماسك التحالفات القائمة، وهو ما يبرز بشكل جلي من تعامله مع الملف الإيراني، في الوقت الذي يبدي فيه انفتاحه على لقاء قادة طهران وبينما المفاوضات بين الطرفين الأمريكي والإيراني مستمرة، فإنه لا يتردد في إرسال تهديداته المباشرة أو المبطنة بشأن ضرب طهران - وهو ما حدث للمفاعل النووية الثلاثة - وتحذيرها من «رفض اليد الممدودة».
غير أن نجاح استراتيجية «الغموض الاستراتيجي» يرتبط بشكل وثيق بمدى مصداقية وثبات الرسائل الأمريكية في أعين الأطراف الفاعلة في المنطقة. فبينما يواجه النظام الإقليمي استقطابًا متوسعًا بين معسكرات متنازعة، تصبح قدرة واشنطن على فرض قواعد اللعبة مرهونة بتوازن دقيق بين الحزم والمرونة، ونصب أعينها على كلٍ من الصين وروسيا اللتين تنافسان واشنطن بقوة في المنطقة.
حين تناولت إدارة العلاقات بعقلية «صانع الصفقات» أشارت إلى أن ترامب اعتمد في إدارة علاقات الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط خلال الفترة المنقضية من ولايته الثانية على عقلية «رجل الأعمال» وصانع الصفقات، واضعًا الاستثمارات والفرص الاقتصادية في قلب تحركاته الدبلوماسية. ظهر هذا التوجه بوضوح في تعامله مع القوى الخليجية الكبرى، عبر تحفيزها على ضخ استثمارات ضخمة في الاقتصاد الأمريكي مقابل تعزيز الشراكات الأمنية والتكنولوجية، مع السعي إلى إعادة ضبط التوازن في المنافسة العالمية، خصوصًا في قطاع التكنولوجيا.
أما فيما يتعلق بالتحديات التي تواجه ترامب في الشرق الأوسط، تقول، إميلي ميليكين، الباحثة في المجلس الأطلسي، المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط، مع أن نهج إدارة ترامب تجاه الشرق الأوسط قد يبدو متقلبًا، إلا أنه كان متسقًا إلى حد كبير مع ولايته الأولى، ذلك أنه جمع بين التواصل الدبلوماسي والمواقف العدوانية.
تسعى إدارة ترامب إلى إبراز قوتها وتأكيد ردعها، خاصة ضد إيران، مع تجنب التدخل الأمريكي واسع النطاق. وقد واصلت إدارته تأكيد رغبتها في توسيع نطاق اتفاقيات إبراهام والدفع نحو التكامل الاقتصادي الإقليمي، مع اتخاذ موقف متشدد ضد طهران وشبكاتها من وكلائها وحلفائها، وفق ميليكين.
كما تبرز الباحثة في معرض حديثها، التحديات الرئيسية التي تواجه سياسة ترامب في الشرق الأوسط في ولايته الثانية، وكيف تعكس رسائله المتضاربة بين التفاوض والتهديد، المتغيرات السياسية داخل الولايات المتحدة ومصالحها الاستراتيجية الأوسع في المنطقة، وتعتبر أن التحدي الرئيسي لسياسة ترامب في المنطقة يتمثل في المنافسة المتزايدة من روسيا والصين.
تعمل الصين وروسيا على توسيع نفوذهما في المنطقة من خلال الاستثمار ومبيعات الأسلحة والتواصل الدبلوماسي، مما يوفر للدول (في المنطقة) بدائل عن الولايات المتحدة التي ترى أن موقفها من الشرق الأوسط غير مؤكد. وكما تقول، حتى أن: «الصين وروسيا توفران لجهات فاعلة غير حكومية، مثل الحوثيين، سبل دعم جديدة ومثيرة للقلق، مما سيعقّد جهود إضعافهم والقضاء عليهم».
وفي السياق ذاته، يرى أستاذ العلاقات في كلية هاملتون في نيويورك، آلان كفروني، أن السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط عمومًا تتسم باستمرارية جوهرية، ففي العام 2018، انسحب دونالد ترامب من خطة العمل الشامل المشتركة التي تفاوض عليها باراك أوباما بالاشتراك مع الاتحاد الأوروبي وروسيا في العام 2015. ولم تسعَ إدارة بايدن إلى العودة إلى المعاهدة، بل حافظت على نصيب الأسد من عقوبات ترامب. من جانبها، زادت إيران من قدرتها على تخصيب اليورانيوم بشكل كبير- حيث ورد أنها وصلت إلى 60% وتقترب الآن من الحد اللازم لامتلاك سلاح نووي وفقًا لمعاهدة الطاقة الذرية الدولية.
وفي الوقت نفسه، أضعفت العقوبات الاقتصاد الإيراني بشكل خطير، مما حفز طهران ليس فقط على السعي للتعاون مع الولايات المتحدة، ولكن أيضًا على توثيق العلاقات مع روسيا والصين، حيث زودت الأولى بدعم عسكري كبير في شكل طائرات بدون طيار، والثانية بالنفط، وبالتالي تجنبت العقوبات الثانوية الأمريكية. وبعد انضمامها إلى مجموعة البريكس في عام 2024، وقعت إيران اتفاقية دفاع مشترك مع روسيا، على الرغم من أنها لا تتطلب دعمًا عسكريًا.
ويرى أيضًا، أن لدى واشنطن أسباب استراتيجية واقتصادية قوية لاستهداف إيران واستعادة هيمنتها على منطقة ذات موارد نفطية هائلة، وفي بعض النواحي لا تزال غير مُستغلة، لا سيما في إيران، بالإضافة إلى تطوير ممرات مائية تجارية - قد تكون متعارضة في بعض النواحي. وبعد إضعاف إيران بشكل خطير من خلال الهجمات الجوية المكثفة والتدمير المزعوم لأنظمة الدفاع الصاروخي الإيرانية من طراز 300-S، يضغط نتنياهو من أجل شنِّ غارات جوية شاملة على المنشآت النووية الإيرانية إلى جانب غارات الكوماندوز، المصممة بالكامل للقضاء على القدرات النووية الإيرانية المحتملة، وقد قاوم ترامب هذه التحركات، والتي ستتطلب بالتأكيد دعمًا أمريكيًا كبيرًا مطالبًا طهران بخفض تخصيب اليورانيوم إلى 3% من المستويات المدنية، وهدد في نهاية مارس الماضي بشن حملة قصف شاملة إذا لم تمتثل إيران.
توفر هذه التهديدات السياق لجولة من المفاوضات الأمريكية الإيرانية. وبحسب ما ورد تختلف إسرائيل والولايات المتحدة حتى حول التخصيب بنسبة 3%، وهو خط أحمر لطهران، بحسب كفروني الذي يشير إلى أن رفض إيران الامتثال لإملاءات ترامب أو هجوم آحادي الجانب من جانب أجندة نتنياهو التوسعية قد يؤدي إلى حرب مدمرة يمكن أن تمتد إلى ما وراء المنطقة.
وحول ملف غزّة، يشير أستاذ العلاقات الدولية إلى أن إدارة ترامب حافظت على دعم بايدن الهائل وغير المشروط لحرب إسرائيل المدمّر على غزّة، مُواصلة تمكينها من شن هجمات مُدمرة على حزب الله والتوغلات في سوريا ولبنان. ومن غير المرجح أن تضغط واشنطن على إسرائيل بشأن هذه الإجراءات٠
وفيما يخص اليمن، فمن خلال عملية «الفارس الخشن»، شنت الولايات المتحدة حملة ضد الحوثيين في اليمن تهدف إلى القضاء على هجماتهم على سفن الشحن في البحر الأحمر دعمًا لسكان غرّة.
إن التباين بين أدوات ترامب التفاوضية التصعيدية في منطقة الشرق الأوسط يأتي، كما توضح القراءة، كجزء من فلسفة سياسته الخارجية الأوسع، ذلك أنه يُمكن النظر إلى عقيدة ترامب في السياسة الخارجية في المراحل الأولى من ولايته الثانية من خلال عاملين رئيسيين: الغموض الاستراتيجي والدبلوماسية التبادلية، ويتشابه النهجان مع ولايته الأولى، لكنهما أكثر وضوحًا في بداية ولايته الثانية، وتنطبقان بالتساوي على الأصدقاء والأعداء.
ولطالما كان الغموض الاستراتيجي سمة مميزة لأسلوب في السياسة الخارجية، من خلال إطلاق مبادرات سلمية (مثل استئناف المحادثات الدبلوماسية مع إيران للتواصل إلى اتفاق سلام نووي مُوثّق)، مع الدفع في الوقت نفسه نحو «أقصى قدر من الضغط».
يسعى ترامب إلى الحفاظ على المرونة وعدم القدرة على التنبؤ لتعظيم نفوذ الولايات المتحدة في المفاوضات، وهو مبدأ متجذّر في استراتيجيات إبرام الصفقات التجارية، حيث يمكن للغموض أن يحقق مزايا تفاوضية. وهو ما أكده الأستاذ في الجامعة الأمريكية باباك حافظي، مشيرًا إلى أن سياسة ترامب تعكس نظرة معاملاتية مكثفة للعلاقات الدولية، حيث تتعامل مع العلاقات الدبلوماسية على أنها مفاوضات حول مصالح محددة أكثر منها تحالفات استراتيجية طويلة الأجل.
تنعكس هذه السياسة في نهجه تجاه غزّة، إذ اقترح السيطرة على القطاع وإعادة تطويره ليصبح وجهة سياحية (ريفيرا الشرق).
كما تشير المؤشرات الأولية إلى استمرار هذا التوجه مع دول الخليج بشكل خاص، مرتبط بتوقعات محددة بشأن النفط (استقرار الأسعار العالمية)، والحفاظ على الدولار كعملة رئيسية لتجارة النفط،والتركيز على الاستثمار الأجنبي المباشر في الولايات المتحدة من قبل دول المنطقة، وتحفيز التغيير في السياسة التجارية من خلال نظام التعريفات الجمركية، والمشتريات العسكرية، ومواجهة إيران.
ويضيف حافظي: كما تُحرك الأولويات الاقتصادية نهج ترامب، إذ تُستخدم سياسة الشرق الأوسط بشكل متكرر كأداة لتعزيز مبيعات الأسلحة، وضمان مزايا الطاقة، والاستفادة من اتفاقيات التجارة.. ولا تُمثل التهديدات إشارات دبلوماسية فحسب، بل أوراق مساومة اقتصادية أيضًا، تضغط على الحلفاء لزيادة الإنفاق الدفاعي أو تعديل إنتاج النفط بما يتماشى مع المصالح الأمريكية.. وعلى الرغم من الإشارات الخطابية نحو فك الارتباط، لا تزال الولايات المتحدة متورطة بشدة في المنطقة نظرًا لضرورات تتعلق بأمن الطاقة ومكافحة الإرهاب ومنافسة القوى العظمى مع الصين وروسيا.
ويعتقد بأن ما قد تخلفه الولايات المتحدة من فراغ سيسمح للصين بتوسيع حضورها الإقليمي من خلال استثمارات مبادرة الحزام والطريق في البنية التحتية الخليجية، لافتًا أيضًا في الوقت نفسه، إلى أنه إذا اعتمدت الولايات المتحدة بشكل أساسي على استراتيجيات قسرية دون تقديم شراكات اقتصادية وأمنية مقنعة طويلة الأجل، فإنها تخاطر بتآكل نفوذها الإقليمي.