3. القانون النقابي – عندما يصبح التشريع أداة قمع برجوازية


عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 7 / 12 - 07:07     

لا يولد القانون في الفراغ، بل يتشكّل في رحم الصراع الطبقي، ويُصاغ في لحظة اختلال موازين القوى لصالح طبقة على حساب أخرى. لذلك لا يمكن فهم القانون النقابي في السودان، لا في نسخة 2010 ولا في محاولة تجاوزه عام 2020، خارج هذا الإطار المادي. ففي الوقت الذي تُطرح فيه مسألة "الإصلاح النقابي" بلغة قانونية محايدة، يغيب عن النقاش جوهر المسألة: أن القانون ذاته هو تجسيد لإرادة سياسية طبقية تهدف إلى تدجين النقابة وتحويلها من أداة نضال إلى جهاز ترويض.

لقد جاء قانون النقابات لعام 2010 في سياق سياسي كان النظام الإسلاموي فيه قد استكمل عملية تفكيك التنظيمات المستقلة وتأسيس دولة بيروقراطية – أمنية تابعة للرأسمالية العالمية. وكان هدف القانون واضحًا: نزع الطابع السياسي عن العمل النقابي، ووضعه تحت وصاية وزارة العدل ومفوضية الدولة، ومن ثم حرمان الطبقة العاملة من أي أداة تنظيمية حقيقية. فبموجب هذا القانون، لا يُسمح للنقابات بتكوين نفسها بحرية، ولا بعقد جمعياتها العمومية إلا بموافقة الدولة، كما أن "المسجل العام للنقابات" – وهو منصب إداري في يد السلطة التنفيذية – يمتلك صلاحية حل النقابات، وتعيين لجان تمهيدية مكانها، دون الرجوع للقواعد العمالية.

هذا الترتيب لم يكن "تشويهًا" عرضيًا في النص، بل كان الغرض منه استباق أي وعي نقابي مستقل عبر قانون يُعيد إنتاج الهزيمة، ويجعل من التنظيم فعلًا إداريًا لا سياسيًا. وهكذا تمكّنت الدولة من تقنين حالة من الشلل النقابي الجماعي، حيث تُختزل النقابة في لجنة خدماتية خاضعة، وتُجرّم أي مبادرة قاعدية مستقلة باعتبارها غير شرعية. إن القانون في هذه الحالة لا يعبّر عن مبدأ التنظيم، بل عن مبدأ السيطرة، حيث تصبح كل نقابة غير منضبطة لإرادة الدولة خارج إطار "الشرعية القانونية".

إن مقولة ماركس إن "الحق لا يكون أبدًا فوق الاقتصاد" تتجلى بوضوح في هذه الحالة. فالقانون النقابي لا يُصاغ لخدمة مصلحة مجردة، بل لحماية نمط إنتاج قائم على التبعية والاستغلال. ولهذا، فإن قانون 2010، رغم غلافه الفني، لم يكن إلا ترجمة دقيقة لمشروع سياسي متكامل: منع بناء تنظيمات عمالية حقيقية يمكن أن تُهدد سلطة الرأسمالية الطفيلية.

لكن الخطورة لا تكمن فقط في نصوص القانون، بل في آلية تطبيقه. فاللجان التمهيدية التي ينص عليها القانون تُستخدم كأداة لاختراق النقابات من الداخل، وتُشكّل حائط صد ضد كل محاولة للتحرر من وصاية الدولة. فبدلاً من أن تنبثق النقابة من القواعد، تُفرض عليها قيادة مُعيّنة من أعلى، تتحكم في جدول أعمالها، وتُصفي عناصرها الثورية، وتُكرّس الطابع البيروقراطي لها. لقد تحوّلت هذه اللجان إلى "ترويكا طبقية" من بيروقراطيين، ومحامين حكوميين، وموظفين موالين للنظام، يُديرون النقابات كأنها أقسام في وزارة العمل، لا أدوات صراع طبقي.

وقد استُخدمت هذه البنية لتصفية النقابات الجذرية بعد الثورة. فعندما بدأت قطاعات واسعة من العمال والموظفين، لا سيما في التعليم والصحة والموانئ، في إعادة بناء هياكلهم النقابية من القاعدة، واجهوا حائطًا من التعطيل القانوني، حيث رفضت الدولة الاعتراف بأي نقابة لم تمر عبر قنوات القانون القديم. أما قانون 2020، الذي أُنجز في لحظة ضعف نسبي للدولة العميقة، فقد تم تجاهله تمامًا، ولم تُصدر السلطات الانتقالية أي لوائح لتنفيذه، بما يدل أن المسألة لم تكن مسألة نقص في الترتيب، بل موقف سياسي واعٍ يرفض الاعتراف بأي تنظيم عمالي مستقل.

لقد أثبتت التجربة أن الإصلاح القانوني في ظل الدولة الطبقية ليس ضمانة لحرية التنظيم، بل غطاء لتطبيع السيطرة. فما لم يتغيّر توازن القوى المادي لصالح الطبقة العاملة، سيظل القانون أداة لضبطها لا لتحريرها. وحتى المبادرات التي حاولت انتزاع الاعتراف القانوني بتنظيمات مستقلة، وُوجهت بقمع ناعم: مماطلة، إلغاء، إرجاء، حتى ينقضي الزخم ويتسلل الإحباط.

لذلك، لا يمكن الفصل بين معركة إسقاط قانون 2010، ومعركة بناء التنظيم الثوري. فالقانون ليس سوى جبهة من جبهات الصراع. ومجرد المطالبة بقانون بديل دون بناء ميزان قوة ميداني يُجبر الدولة على الاعتراف به، لن يُنتج إلا تنازلات شكلية تُعيد إنتاج الهزيمة السابقة. إن الخيار الحقيقي اليوم ليس بين قانون سيئ وقانون أفضل، بل بين قانون يُكرّس السيطرة وقانون يُنتزع من أسفل ويُفرض فرضًا كثمرة لنضال ثوري واعٍ.

ولعل الدرس الأهم هنا هو أن النقابة التي لا تمتلك حق تقرير مصيرها التنظيمي، لا تملك حقها في الحياة أصلاً. فمن لا يسيطر على آلية التنظيم، لا يستطيع أن يواجه رأس المال. ومن لا يُسقط قانون السيطرة، لن يكتب قانون الحرية. وهكذا لا يمكن لأي تنظيم نقابي أن يُولد في كنف الدولة الطبقية دون أن يُشوَّه. فكما أن البروليتاريا لا يمكن أن تتحرر إلا بإلغاء الدولة الطبقية، فإن النقابة لا تكون نقابة حقيقية إلا حين تُبنى ضد القانون، لا من خلاله.

"حين يُصبح القانون حارسًا للاستغلال، تصبح مخالفته واجبًا طبقيًا."

النضال مستمر،،