إذكاء الصراع الطبقي من حوارنا -كأن الذكاء الاصطناعي هو الكأس المقدسة-، مع الرفيق رزكار عقراوي – بؤرة ضوء – الحلقة التاسعة
فاطمة الفلاحي
2025 / 7 / 11 - 00:45
عندما يقترب الصراع الطبقي من الحسم تتخذ عملية التفسخ داخل الطبقة السائدة، وداخل المجتمع بأسره إلى حد أن قسماً صغيراً من الطبقة السائدة ينسلخ عنها وينضم إلى الطبقة الثورية التي تحمل بين يديها المستقبل، مثلما انتقل في الماضي قسم من النبلاء إلى البرجوازية، وينتقل الآن قسم من البرجوازية إلى البروليتاريا[1].
إن التمايز الطبقي القائم على أساس تمركز رأس المال لدى أقلية وانسحاق فئات متسعة من الشعب، وهذا التمايز المرتبط بوجود الرأسمالية المعاصر والمتعمق بفعل استمرارها أو حتى تطورها يؤدي إلى تفاقم الصراع الطبقي و”تخندق” كل من الطرفين المصارعين البرجوازية التي تحمي مصالحها بكل جبروت السلطة والدعم الامبريالي، والشعب المتمايز طبقيًا لكن “الموحد” في الصراع الطبقي سواء كانت نتيجة للوحدة الهدف في الصراع ضد السلطة أو الطبقة المسيطرة، أو لأن الحدود الطبقية لم تترسخ نتيجة لطبيعة البنية الاقتصادية ذاتها وخاصة في ظل النظام الرأسمالي المعاصر[2].
هنا :
سؤال 9: هل سيتحدى الذكاء الاصطناعي ويعمل عمل الرأسماليين في إذكاء الصراع الطبقي وجعل السوق تعمل لمصلحة الرأسماليين؟
يجيبنا الرفيق رزكار عقراوي مشكورًا:
نعم، الذكاء الاصطناعي في ظل الرأسمالية لم يعد مجرد أداة إنتاج أو تقنية حيادية، وانما أصبح فاعلا مباشرا في إعادة تشكيل السوق على أسس طبقية صارخة. إن السؤال لم يعد كافيا: هل الذكاء الاصطناعي يخدم السوق؟، حيث جوابه نعم صارخة. يتطلب الأمر هنا توسيع السؤال وإضافة: أي سوق يخدم؟ ولصالح من؟ وكيف؟
السوق اليوم صار فضاء تتحكم به الخوارزميات لصالح مصالح الرأسماليين والطغم التكنولوجية والدول الكبرى، خلافا لما تروج له النخب النيوليبرالية في كونه مجالا حرا للتبادل والمنفعة. وكما أشار كارل ماركس في الكثير من مؤلفاته، فإن كل قفزة تكنولوجية داخل الرأسمالية لا تفتح الباب نحو تحرير الإنسان، وإنما نحو إعادة إنتاج الهيمنة الطبقية بوسائل أكثر تطورا. التطورات التكنولوجية لا تفهم خارج علاقات الإنتاج السائدة، والذكاء الاصطناعي لم يستثن من ذلك، بل تم دمجه كأداة مباشرة بيد البرجوازية لتعزيز السيطرة على العمل، على السوق، وعلى الوعي الجماهيري. تماما كما استخدمت الآلة في الثورة الصناعية لتعظيم الاستغلال وتقليص الحاجة للعمالة، يستخدم الذكاء الاصطناعي اليوم لتخفيض التكاليف، طرد شغيلات وشغيلة اليد والفكر أو دفعهم إلى أعمال جديدة، وفرض العمل الهش، وتعميق الاغتراب والاستلاب الرقمي. ويتم استبدالهم بالخوارزميات، وتعاد صياغة علاقات الإنتاج ضمن بنية تحتكر فيها البرجوازية ليس العملية الإنتاجية في الأرض فقط، وانما أدوات الإنتاج في الفضاء الرقمي أيضا.
الصراع الطبقي يشتد، والفجوة الاجتماعية تتسع، والسيطرة على الأسواق باتت محتكرة من قبل شركات تكنولوجية عملاقة والدول الكبرى. هذه الشركات والدول تمتلك اليوم القدرة الكبيرة على تشكيل الرأي العام، فرض الرقابة الرقمية، وتحويل البشر إلى مواد خام رقمية مستغلة أو مهمشة. استمرار سيطرة الرأسمالية، دولا وشركات، على الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى مجتمعات شديدة التفاوت، حيث الطغم التكنولوجية تملك سلطة قريبة من المطلقة، بينما يدفع ملايين البشر إلى الهامش. الذكاء الاصطناعي، كما يستخدم اليوم، لا يعمل ضمن السوق الرأسمالي فقط، إنما يعيد تصميمه من الداخل ليصبح أكثر عدوانية طبقيا. السوق لم يعد يستجيب لحاجات الناس، وانما يصنعها ويوجهها، ووفقا لذلك يراكم الأرباح وبأشكال مختلفة.
هكذا يتحول الذكاء الاصطناعي إلى مدير غير مرئي للسوق، يعيد رسم العرض والطلب، يقرر من يظهر ومن يقصى، من يربح ومن يفقر، ويؤطر كل ذلك بخطاب الحياد والخدمة. السوق لم يعد يتشكل عبر التنافس، وإنما يعاد إنتاجه إلى حد كبير من خلال خوارزميات موجهة تخدم من يحتكر أدوات الذكاء الاصطناعي. السلوك البشري ذاته بات مادة خام في عملية تراكم رأس المال. ولذلك الصراع الطبقي لم يخف، فقط تغيرت وتطورت وتوسعت ميادينه، وصارت السوق الرقمية نفسها أحد أخطر ميادين الصراع والسيطرة والقمع الطبقي. إذا من يسيطر على الذكاء الاصطناعي اليوم، يسيطر على السوق، ومن يسيطر على السوق، يعيد إنتاج الاستغلال ويمنع ظهور أي بدائل يسارية تقدمية. والنتيجة واضحة: الأسواق تعمل لصالح الرأسماليين، وتعظم أرباحهم على حساب حقوق شغيلات وشغيلة اليد والفكر، على حساب العدالة والمساواة، وعلى حساب البشرية بأكملها.
هل سيستمر الذكاء الاصطناعي في خدمته الدائمة للسوق الرأسمالي؟ الجواب نعم، إذا بقيت بنية السيطرة على حالها، وإذا استمر التطوير والتوجيه ضمن منطق تعظيم الأرباح والهيمنة السياسية والفكرية للرأسمالية. لكن من الممكن لقوى اليسار أن تعيد توجيه الذكاء الاصطناعي، وتكسر منطق السوق الطبقي، وتوظفه في خدمة العدالة الاجتماعية. ذلك يتطلب النضال طويلا وشرسا من أجل نزع الملكية الرقمية من الشركات الاحتكارية والدول الكبرى، أو إنشاء أدوات يسارية رقمية بديلة، فرض الضوابط والرقابة المجتمعية، وتبني قوانين دولية تضمن الشفافية وتمنع الاستغلال.
السوق الرأسمالية ليست قدرا محتوما، والصراع الطبقي لم ينتهِ. الذكاء الاصطناعي يمكن أن يبقى أداة للهيمنة ولخدمة الرأسمال، وفي الوقت نفسه من الممكن أن يتحول إلى أحد الأدوات الفاعلة لتحرر البشرية. هذا يتوقف على من يملك هذه الأدوات، من يوجهها، من يغذيها، ولمصلحة من تستخدم. كل ذلك مرتبط بقدرات وإمكانيات القوى اليسارية والتقدمية في العالم، التي ما زالت ضعيفة ومشتتة وغير قادرة بعد على مواجهة هذا التحدي الكبير والخطر بمستوى التوقع والمسؤولية.
_____
[1]هرمان دونكر، البيان الشيوعي، ترجمة عصام أمين، دار الفارابي بيروت، 2008، ص، ص، ص، 56، 59، 69.
[2]سلامة كيلة، من هيغل إلى ماركس (التصور المادي للتاريخ) بيروت، 2010، ص، 226.
انتظرونا في الحلقة العاشرة من حوارنا "كأن الذكاء الاصطناعي هو الكأس المقدسة".