النقابات في السودان – من أدوات الترويض إلى جبهات الثورة


عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 7 / 10 - 10:23     

مقدمة

ليست النقابة في السودان مؤسسة تقنية تُعنى بتحسين شروط العمل، بل هي موقع مادي ورمزي يتكثف فيه الصراع الطبقي في أكثر تجلياته مباشرة. فبقدر ما تسعى البرجوازية للسيطرة على أدوات العُمّال التنظيمية، بقدر ما تدرك الطبقة العاملة أن النقابة ليست مجرد هيكل إداري، بل هي سلاح تنظيمي، ورافعة تاريخية لتحطيم آليات الهيمنة لا التكيف معها. لقد نشأت النقابات في السودان منذ الحقبة الاستعمارية كجزء من مقاومة مشروع رأسمالي عنصري ينهب البلاد ويحوّل سكانها إلى أدوات عمل مجردة. ومنذ أن تشكّل أول اتحاد عمالي في السكك الحديدية، لم تكن النقابة إلا مرآةً دقيقة لتوازن القوى بين الطبقات، وساحة تُدار فيها معارك تُحدّد مصير الطبقة العاملة لا في شروط عملها فقط، بل في قدرتها على الوجود بوصفها فاعلًا سياسيًا مستقلاً.

إنّ تقسيم السلطة لأجهزتها إلى أدوات قمع مباشر كالعسكر والشرطة، وأخرى ناعمة كالمؤسسات الثقافية والدينية والنقابية، لم يكن يوماً بريئاً. فحين تُختزل النقابة في مجرد هيئة مطلبية تدير الفقر ولا تُهدد أسبابه، فإنها تنقلب من أداة تحرر إلى وسيلة لإعادة إنتاج السيطرة الطبقية. وهذا هو بالضبط الدور الذي أدّته النقابات الرسمية في ظل الدولة السودانية التابعة، خصوصاً تحت حكم الجبهة الإسلامية القومية، حيث تم تدجينها بالكامل وتحويلها إلى أذرع بيروقراطية تخدم النظام، وتُفرغ التنظيم العمالي من كل مضامينه الثورية. وقد شكّل قانون 2010 ذروة هذا الانقلاب على الاستقلالية النقابية، حين منح الدولة سلطة تشكيل النقابات وحلّها، وفرض وصايتها على مجمل العملية التنظيمية، عبر آلية اللجان التمهيدية. لم يكن هذا القانون وليد الحاجة إلى تنظيم، بل وليد الحاجة إلى كسر كل تنظيم مستقل.

إن الوظيفة السياسية لهذا القانون تتجاوز النصوص إلى البنية الطبقية التي يمثلها، فهو يُعبّر عن منطق دولة رأسمالية طفيلية تعادي التنظيم المستقل لأنه يُهدد جوهرها، لا إدارتها. وقد تواصل هذا المنطق خلال المرحلة الانتقالية التي أعقبت سقوط البشير، حين تم الالتفاف على قانون 2020 الذي صاغته لجان محامين تقدميين وناشطون نقابيون مستقلون، وظلّ حبيس الأدراج، بينما استُعيدت عملياً البنية الترويضية ذاتها: لجان غير منتخبة، نقابات صورية، وبيروقراطية نقابية تربت في حضن النظام القديم. ومع اندلاع الحرب في أبريل 2023، تضاعف هذا الاتجاه، فتمّت تصفية مساحات التنظيم القاعدي، وترويج الخطاب الخدمي – الإصلاحي، ومنع أي محاولة لبناء نقابات مقاتلة.

في ضوء ذلك، لا يمكن النظر إلى المعركة النقابية كمعركة مطلبية، أو كصراع قانوني محض. إنها معركة على من يُنظّم مَن، ولأي غرض. من هذا المنطلق، لا يكون النضال من أجل نقابة مستقلة نضالًا في الهامش، بل في قلب المشروع الثوري. فإما نقابة مقاتلة تنبثق من وعي طبقي جذري، وتربط بين الأجر والسلطة، بين المطلب السياسي والاجتماعي، وإما تكرار لنفس دائرة الترويض المفرغة. ولهذا، فإن النقابات في الموانئ، وفي السكة حديد، والتعليم، والصحة، والنقل، ليست قطاعات مشتتة، بل جبهات يمكن لها – إذا ما توحدت – أن تُحدث صدعًا في بنية الهيمنة.

السلسلة التي نقدمها لا تستهدف استعادة النقاش حول الإصلاح النقابي أو تحسين الأداء المؤسسي، بل تسعى إلى تفكيك بنية النقابة كجهاز سياسي طبقي، وإلى إعادة تعريف دورها في المشروع الثوري. وهي تُكتب انطلاقًا من مسلمات لا بد من إعلانها منذ البدء: أن النقابة ليست محايدة بل تعكس ميزان القوى، وأن القانون لا يُصلح بل يُنتزع، وأن التنظيم العمالي لا يولد من رحم الدولة بل في مواجهتها، وأن فصل النضال الاقتصادي عن السياسي جريمة تاريخية تُعيد إنتاج الخضوع، وأن الاستقلالية الطبقية ليست موقفًا أخلاقيًا، بل ضرورة مادية لبناء أداة تحرر. فحين لا تملك الطبقة العاملة تنظيمها المستقل، فإنها تُستخدم ضد مصالحها باسم التمثيل، وحين لا يكون للنقابة مشروع سياسي تحرري، فإنها تصبح مجرد وسيط بين العامل وجلاده.

إن معركة النقابات في السودان اليوم، هي معركة ضد المنظومة الرأسمالية الطفيلية بكاملها، لا ضد بعض ممثليها. ولذلك، فإن مستقبل الحركة النقابية لن يُحسم في البرلمان، بل في الشارع، وفي مواقع العمل، وفي قدرات العمال على التنظيم من أسفل. إنها ليست معركة تحسين شروط الاستغلال، بل معركة تحرير شامل من نظام يُنتج الفقر، ويُحرّم التنظيم، ويُشيطن الثورة. من هنا تبدأ السلسلة، ومن هنا يجب أن يُعاد التفكير في كل ما يسمى "إصلاحًا نقابيًا".

"لا يمكن تحرير الطبقة العاملة إلا بوسائل الطبقة العاملة ذاتها، وبقيادة تنظيمها المستقل، وباستقلالها عن الدولة."

النضال مستمر،،