حرب البذور… سلاح دمار مؤجل في ترسانة قوى الرأسمال
ليث الجادر
2025 / 7 / 10 - 10:22
قد لا يسمع كثيرون دويّ هذا السلاح، لكن أثره يسمع في معدة جائعة، وفي فلاحٍ بات عاجزًا عن زراعة حقله من دون إذن شركات عابرة للقارات.
إنها «حرب البذور» — الوجه الأكثر خفاءً لحربٍ تخاض باسم التنمية والتكنولوجيا، بينما حقيقتها أنها أداة تابعة لترسانة رأس المال العالمي، تستهدف إخضاع الشعوب عبر التحكم في أبسط شروط البقاء: الزرع والغذاء.
كيف تحولت البذور إلى سلاح؟
منذ التسعينيات، ومع الطفرة البيوتكنولوجية واتساع قوانين براءات الاختراع، نشأت إمبراطوريات زراعية ضخمة مثل مونسنتو سابقًا، باير حاليًا، كورتيفا، وسينجينتا لتحتكر تطوير البذور المعدّلة وراثيًا والهجينة. هذه البذور لا تعطي مزارعيها الحق في إعادة زراعتها، بل تفرض عليهم شراء بذور جديدة كل موسم، مع المبيدات والأسمدة المطابقة.
وفق أحدث التقارير حتى 2025، تسيطر 4 شركات فقط على أكثر من 60 إلى 65 بالمئة من سوق البذور التجاري العالمي. والنتيجة: مزارع صغير في إفريقيا أو آسيا أو بلادنا العربية صار رهينة عقود الإمداد السنوي، ولا يملك حتى حبة بذرة حرة ليقاوم بها الجوع.
براءات الاختراع: قيود قانونية تكبّل التراب
الهيمنة لا تقوم فقط على التقنيات المهندسة، بل أيضًا على القانون. فبراءات الاختراع تجعل تبادل البذور التقليدية مجرّمًا أو مقيّدًا بترخيص. تقارير 2025 تؤكد أن الهند وكينيا ونيجيريا شهدت تعديلات تشريعية تضيّق على تبادل البذور البلدية، وتلزم الفلاحين بالتسجيل في سجلات الأصناف المعتمدة، ما يعني إقصاء ملايين المزارعين الصغار من حق التناسل الحرّ لبذورهم.
في أوروبا، يجري جدل واسع حول مشروع قانون سلامة البذور الذي يهدد أصنافًا محلية بالانقراض باسم الأمان الحيوي. هذا كله جزء من شبكة القوانين التي تحوّل الحياة البيولوجية إلى ترخيص مؤقت في خزائن الشركات.
سلاح دمار مؤجل: الأزمات تكشف الهشاشة
مع تغير المناخ والحروب، يتكشف الوجه الأكثر خطورة لهذا السلاح:
في شرق إفريقيا، ضرب الجفاف الشديد 2024/2025 محاصيل مهجّنة كانت عاجزة عن التكيف مقارنة بالأصناف المحلية المقاومة.
الحرب الأوكرانية عطّلت صادرات بذور الحبوب وزيت دوّار الشمس، فكشفت كيف أن الاعتماد على بضعة موردين عالميين قد يشلّ الأمن الغذائي لدول بأكملها.
أزمة العملة الصعبة في دول مثل مصر أكدت أن سعر البذور أصبح مرتبطًا بالدولار أكثر مما هو مرتبط بيد الفلاح، فتعمّق ارتهان المائدة المحلية بتقلبات السوق العالمي.
الوضع في العالم العربي:
رغم أن النقاش عن احتكار البذور غالبًا ما يركز على أمريكا اللاتينية وآسيا، فإن المنطقة العربية تواجه خطرًا مشابهًا، بل وأشد وطأة أحيانًا بسبب غياب برامج حماية التنوّع الوراثي.
مصر:
شهدت السنوات الأخيرة توسعًا في الاعتماد على أصناف هجينة مستوردة خاصة في الذرة والخضروات. مع تراجع قيمة الجنيه، صار سعر البذور رهينًا لسعر الدولار، في ظل ضعف برامج بنوك البذور الرسمية التي تحفظ الأصناف البلدية المقاومة للملوحة والجفاف.
المغرب وتونس:
ينتشر استخدام البذور التجارية المعدّلة والهجينة في بعض سلاسل إنتاج القمح والخضروات، بينما برامج حفظ الأصناف الأصلية ما تزال محدودة التمويل. بعض الشركات الإقليمية أبرمت اتفاقيات شراكة مع كورتيفا وباير لتوريد البذور، مما يهدد بفقدان سلالات محلية عريقة.
الخليج:
في الإمارات ودول الخليج عمومًا، لم تتأسس بعد بنوك بذور سيادية فعلية. الزراعة الداخلية الرأسية تعتمد غالبًا على بذور مستوردة مقيّدة ببراءات اختراع. مع التغير المناخي وندرة المياه، صار هذا الارتهان خطرًا مضاعفًا.
العراق وسوريا وبلاد الشام:
كانت هذه المنطقة غنية بأصناف قمح وشعير محلية تتحمل المناخ القاسي. الحرب وغياب التنظيم فتحا الباب أمام بذور هجينة غير موثوقة، مع انقراض بعض الأصناف الأصلية. حتى منتصف 2025، لا توجد سياسات فعالة لإعادة تأسيس بنوك بذور وطنية أو دعم شبكات حفظ البذور التراثية.
مقاومات صامتة: حركة حفظ السيادة الحيوية
رغم الهيمنة المتسعة، تتسع شبكات المقاومة. في الهند وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، ظهرت اتحادات مزارعين مثل فيا كامبسينا وشبكة بذور المزارعين للدفاع عن حق الفلاحين في إنتاج بذورهم وحمايتها من الانقراض. في العالم العربي، توجد مبادرات فردية وبحثية متفرقة لإحياء البذور الأصلية، لكنها تفتقر إلى الدعم السياسي والتمويل الكافي كي تتحول إلى درع حقيقي ضد تغوّل رأس المال.
الخلاصة: من يملك البذرة يملك الرغيف
إن حرب البذور ليست خرافة ولا نظرية مؤامرة. هي معركة مفتوحة من أجل الحق في الطعام، والسيادة على قرار الشعوب في أن تأكل بكرامة. إنها أخطر من البنادق والدبابات؛ لأنها لا تقتل دفعة واحدة، بل تترك الأرض عاقرًا والإنسان رهينة للجوع والديون والاحتكار.
اليوم، صار تحرير الأرض يبدأ بتحرير البذرة. حماية التنوّع الوراثي والزراعة السيادية ليست ترفًا، بل شرطٌ من شروط البقاء في وجه سلاح دمار مؤجل تخزنه ترسانة رأس المال العالمي في صمت