اكتبوه ميتًا: تمثلات القمع ومقاومة الحياة في سردية الطفولة عند سعدني السلاموني
محمد فرحات
2025 / 7 / 7 - 22:43
في الفصل الحادي عشر من رواية «بين الحياة والموت»، يضعنا الشاعر سعدني السلاموني في قلب حادثة مؤسِّسة تشكّل لحظة مفصلية في سيرته الوجودية؛ ليس مجرد ذكرى طفولة، بل نواة أولى للوعي بالمقاومة، وبالذات، وبالمعنى. فـ «اكتبوه ميت» لم تكن جملة عرضية نطق بها الأب، بل صكّ وفاة رمزي، إعلان مبكر بأن هذا الطفل – الذي لم يتجاوز الخامسة – غير مرغوب فيه في معترك الوجود المأزوم، ومُلقى به خارج أسوار الدولة/المدرسة/الحياة.
لكن ما كتبه الأب على لسانه تحوّل إلى نبوءة معكوسة. كتبوه ميتًا، فبدأ الطفل يولد، ليس جسدًا ضعيفًا يُقذَف خارج المدرسة، بل بذرة أولى لـ«المثقف العضوي» كما يسميه جرامشي، ينطلق من القاع لمواجهة السلطة بكل تجلياتها، أولها السلطة الرمزية للمدرسة.
تتحول القرية، في مستهل هذا الفصل، إلى كائن أسطوري: قنفذ أو سلحفاة شمطاء تشبه الشمسية، تمنح وتمنع، تُدثّر أبناءها وتلفظهم، تصدر أوامرها للضوء والظلام. ميثولوجيا شعبية باسم لغة شعرية مشبعة بالرؤية؛ تكشف عن بنية اجتماعية صارمة، لا تعترف بالخروج عن النسق، وتعاقب التمرد بالعزلة والنبذ، مهما علا الخارج نجوميته.
ومن هنا يتأسس التوتر بين الطفل وسلطة القرية، حيث تأخذ المدرسة امتدادًا مؤسساتيًا لتلك السلطة. المدرسة ليست مكان تعليم، بل مصنع للموت الرمزي، دفتر تُدوَّن فيه أسماء «الأموات»، و«فراش» مختص بإلقائهم خلف الأسوار. هذا التجسيد المسرحي للسلطة التعليمية يستحضر منطق الدولة/السجن/المستشفى كما صوّره ميشيل فوكو؛ حيث تُنضبط الأجساد وفق قواعد صارمة، ويُستَبعد من يخالفها.
لكن الطفل لا يخضع. يقاوم بطريقته: بالعض، بالصراخ، بالرسم، بالحلم، ثم في ذروة رمزية، بالحجر. فالحجر ليس مجرد وسيلة إيذاء، بل تعبير شعري مكثّف عن الرفض. من الطفل الذي يهتف «أنا حي، والله العظيم حي»، إلى القائد الذي يقود «العشرة الأموات» في معركة تحرير المدرسة بالحجارة، تتأسس الذات المتمردة في مواجهة مؤسسات الاعتراف بالموت.
والأهم أن هذا المشهد ليس حدثًا معزولًا، بل «فلاش باك مؤسس»، ستعاود تلك المشاهد وتكراراتها طوال حياة الشاعر، مع تغيّر وجوه السلطة: من الناظر إلى رجل الأمن، إلى الوزير، إلى الأجهزة الثقافية التي تحاصر المثقف وتستنزفه. تتكرر الضغوط، لكنها في كل مرة تأخذ شكلًا جديدًا: مقالًا رافضًا، منبرًا مغلقًا، جائزة تُمنع، كتابًا يُصادر، أو تجاهلًا تامًا في دواخل مؤسسات الاعتراف الأدبي.
الشاعر الذي قيّدت قدماه في الخامسة ليرى نفسه مذهولًا تحت عيون التلاميذ، يرفض منذ ذلك اليوم أن تُمسّ كرامته، أو يُرغَم على الانحناء. ولهذا أيضًا لا يبكي أمام ناهد؛ لأن البكاء في حضرة الحبيبة يعني انهيار الكرامة. هذا التكوين المبكر لعلاقة الشاعر بالقيمة العليا "كرامته" يُفسّر لاحقًا اندفاعه في مشروعه الفكري ومقاومته العنيدة لكل أشكال الإقصاء والتهميش.
من حيث البناء، لا يفصل السلاموني بين الواقعي والأسطوري، بين السردي والشعري. فاللغة تتلوّن بلون المشهد: من نثر سردي واقعي إلى استعارات ملتهبة، ثم مشهدية عالية الحركية. تتحول المدرسة إلى ساحة حرب، والمعلمون إلى «فراخ بيضاء لا تهشّ ولا تنشّ»، ثم إلى «مصارعين على الجسد الصغير»، في تشبيه ساخر مرير يجعل الفصل لوحة تشكيلية ناطقة لا ينقصها سوى التوقيع.
إذا كان الأب قد كتب ابنه «ميتًا» لينقذه – كما ظن – من عبء المصاريف، فإن الابن كتب نفسه «حيًّا» بكل الوسائط الممكنة: بالدم، بالحجر، بالقصيدة، وبالموقف. وكأن الفصل كله إجابة حية عن سؤال: كيف يخلقنا الألم؟
في أعمق أبعاده، لا يعد هذا الفصل مجرد قصة طفل طُرد من المدرسة، بل مرآة تاريخه الطويل من الطرد والتهميش لكل من يقول “لا” في وجه النسق. إنه حجر صغير يُقذَف في عين سلطة عمياء؛ لا يسقطها، لكنها ترتبك للحظة، ثم تستأنف مطاردتك.
ولكن، وكما يعلن السلاموني في بداية الفصل:
«هاحط كوبري يعدوا عليه الميتين للصاحيين، والصاحيين يروحوا للميتين»
لعلّ الكتابة هنا هي ذلك الكوبري، يعبره الميت الذي «دُوِّن» في الدفتر ليعود حيًّا، شاهراً حجره وقلمه، يروي الحكاية.
الشهداء
٧ يوليو ٢٠٢٥
-----
الفصل "١١" من رواية "ما بين الموت والحياة" تحت النشر للشاعر والأديب العالمي سعدني السلاموني مؤسس علم "محو الأمية البصرية"
اكتبوه ميت
بين الحياه والموت
هاحط كوبرى
يعدوا عليه الميتين
للصاحيين
والصاحيين يروحوا للميتين
نعم. الآن. الواحدة ظهرًا، 1970
قرية نادر، مركز الشهداء، محافظة المنوفية. هي قريتنا،
والناظر إليها من بعيد يجدها قنفذًا أو سلحفاة،
حين تشعر بالخطر تلملم أبناءها، وكلابها، وبهائمها، وحميرها،
وجواميسها، وأبقارها، وبطها، وأوزها،
وحمامها، ويمامها، وعصافيرها،
ترمي غطاءها عليهم حتى يمر الخطر في سلام.
ثم ترفع غطاءها الذي يشبه الشمسية،
هذا الغطاء سلاحها،
منذ نعومة أظفارها، حين يهجم عليها الظلام
تطرحه على جسدها، وفي كل مطلع فجر تلملمه،
بأوامر.
الليل والنهار ينطلقان من تحت إبطيها،
وكلٌّ منهما ينطلق باستئذان، ولا يقترب النهار من جسد القرية
إلا أن يأذن له صوت الديك، ومن بعده
صوت العصافير.
وحين يحدث هذا، ترفع غطاءها عن عالمها،
فينطلق أبناؤها إلى فضاء الأرض،
من بشر، وحمير، وجمال، وكلاب، وبهائم،
يبحثون عن رزقهم،
والطيور، وعالم الطيور، يفرون إلى فضاء السماء.
هذه هي قريتي، بقوانينها الصارمة،
والويل كل الويل لمن يتمرد، صغيرًا كان أو كبيرًا،
تلفظه تمامًا من حياتها، تهمشه، ولا تعترف بوجوده
على الإطلاق، حتى لو خرج منها وعاد كنجم
من نجوم العالم.
والحق أقول: إن هذا الطفل، الذي لم يتجاوز من العمر إلا خمس سنوات،
هذا الطفل هو أنا.
لم يخرج عن طوع هذه العجوز الشمطاء، التي تحمل قلبًا من حجر،
إلا يوم الحادثة؛
الحادثة التي رجَّت أركان قريتي نادر وأركان القرى المجاورة...
هذه الحادثة التي غضبت منها السماء،
فأسقطت على القرية غيومها قبل أوان ليلها.
والحادثة بطلها ثلاثة شخصيات، لا رابع لهم:
خفير القرية، ووالدي عبد الفتاح السلاموني، نجار السواقي الذي يعول ستة أفراد، وأنا آخرهم.
الطرقات تدق على باب الدار، وكأنها تعلن عن حرب قادمة.
خرجنا جميعًا في فزع، لنجد الطارق: خفير القرية،
جاء بأمر عاجل وهام من الحكومة:
ــ ابنك مطلوب للمدرسة بكرة... حيًّا أو ميتًا.
ــ اكتبوه ميت... أنا ما عنديش فلوس أعلّم أولاد!
ــ مستقبل الواد يا معلم عبد الفتاح... حرام عليك!
ــ أجيب منين يا شيخ الغفر؟... اكتبوه ميت!
قبل أن تخرج نهاية "اكتبوه ميت"،
سقط وجهي على الأرض بسرعة الصاروخ،
ورحت أعضعض في أقدام أبي،
وأعض وجه الأرض بأسناني،
وكفوف يديّ الصغيرة تدب عليها بكل قوتي، حتى تنشق وتبتلعني،
وأذوب فيها وأتحلل إلى تراب،
حتى أختفي تمامًا عن عيونهم.
ها هو حلم حياتي، وحياة ناهد حبيبتي،
يقذفه والدي من على أطراف شفتيه،
ليستقر في بحر الموت.
راح والدي يلملم جسدي الصغير من على وجه الأرض،
ويضمه إلى صدره...
صدره الذي تحوَّل إلى مسامير تشكشك في جميع أجزاء جسدي.
اشتد صراخي،
خطفني صدر أمي،
ولأول مرة، تخرج النار من صدر أمي،
وكادت أن تحرقني،
ولكن صدر الطفلة ناهد أحن من صدورهم جميعًا،
وهي تضمني إليها وتبكي،
ونظراتها الغاضبة كادت أن تفتك بهم... وبالخفير،
وهي تقسم لي بأنها صباحًا لن تذهب إلى المدرسة إلا بي،
وسوف تُعطيني حقيبتها، حسب قولها.
هناك، في حوش المدرسة، سوف نُخرج الكراريس،
وكراسة الرسم، والأقلام،
ونرسم حلمنا:
الترعة، وشجرة العشاق التي نعرفها،
وبجوارها بيت صغير وطفلنا الذي نحلم به.
قلت: سأرسمه وهو يدخن.
انفجر الجميع بالضحك،
ولكن صرخة ناهد كانت أعلى، وهي تقول:
ــ إنت حتفسدلي الواد من دلوقت!..
أنا حطلعه دكتور ولا مهندس...
في الخامسة صباحًا، ها أنا أجلس أمام باب الدار
في انتظار ناهد. وها هي قادمة مع الأطفال،
تحمل حقيبة المدرسة.
طار جسدي إليها، وقبل أن أنطق بكلمة: "هاتي الحقيبة"،
قالت: "بُكرة، أنا لسه ما فرحتش بشنطتي، خدها بُكرة... بُكرة!"
هذه ليست ناهد التي أعرفها، ليست ناهد الأمس،
غير ناهد الآن!
تجاهلتني تمامًا، وكأنها لا تعرفني، طوال الطريق
حتى وصلنا إلى باب المدرسة.
الأطفال، كلٌّ منهم يحمل حقيبته ويصطفّون طابورًا وراء طابور.
وجاءت وقفتي بجوار ناهد
ونحن نردد خلف صوت الطفل الكبير:
"تحيا جمهورية مصر العربية!"
"تحيا جمهورية مصر العربية!"
وفجأة، سقطت عين مدير المدرسة على جسدي،
وكأنها كهرباء.
ارتجفتُ، وأنا على أبواب الإغماء من شدة الخوف.
قال: "مش انت الواد ابن عبد الفتاح السلاموني؟
سعدني؟!"
نعم، أنا!
"انت ميت عندنا يا بني، لسه مسجّلينك في الدفتر... ميت!"
...أنا حي، والله العظيم حي! هتصدّقوا الورق وتكذبوني؟
أبوك قال: "اكتبوه ميت"... وكتبناك!!
...أنا حي، وباحب المدرسة، والله حي!
انطلقت من عينه نظرة خبيثة،
متجهة إلى فراش المدرسة، الذي يعرف دوره تمامًا:
هو حامل الأطفال المسجَّلين في دفتر المدرسة أمواتًا،
ويلقي بهم خارج سور المدرسة.
وهذا أول يوم في الدراسة،
أكثر من عشرين ميتًا!
لم أشعر بجسدي الصغير،
الذي يختنق تحت إبطه،
وكأنه يحمل قطة صغيرة.
خارج السور، قذف بي على الأطفال الميتين في عين المدرسة،
الأحياء في عين المجتمع. وكانوا عشرة من الأطفال.
بدأت أهتف بهم، وهم يرددون ورائي:
"تحيا جمهورية مصر العربية!"
"تحيا جمهورية مصر العربية!"
ودارت المعركة بيننا وبينهم،
وكانت قطع الطوب والحجارة سلاحنا.
وأنا قائد المعركة.
هربوا جميعًا كالفئران: المدرسون، والناظر.
أغلقوا باب المدرسة.
نفد الطوب من فوق السور،
وبين كرٍّ وفرٍّ، أرهق جسدي فاستسلم لبحرٍ من النوم أمام باب المدرسة.
ولم أستيقظ إلا على أصابع الفراش حامل الأموات،
وهي تغرز في كتفي.
طرح جسدي الصغير تحت أقدام مدير المدرسة،
والمدرسين الذين فجأةً تحوّلوا
من "فراخ بيضاء لا تهشّ ولا تنشّ" إلى مصارعين على جسدي الصغير!
عاد الفراش، وقيد قدماي الصغيرتين، ورفعهما إلى السماء،
وراحت خيزرانة مدرس اللغة العربية تشق طريقها
إلى قدميَّ،
بين صمت الطلبة، وبكاء ناهد المكتوم.
أنا أنظر إلى ناهد، حبيبتي، ولا أبكي،
برغم شدة الألم.
لأني لو بكيت أمام ناهد، لانهارت كرامتي إلى الأبد!
مدير المدرسة ينظر إلى المدرس ويقول:
"اضرب... كمان... كمان... كمان! اضرب جامد!"
التقط الفراش جسدي، مغشيًّا عليه، أو ميتًا... لا أتذكر،
وألقى به على باب المدرسة، خارج السور.
وجاء الأطفال، وسكبوا على وجهي قلة من المياه
حتى عدت من الموت إلى الحياة.
...وياليتني ما عدت.
جلست بجوار باب المدرسة،
وكان يجلس بجواري العشرة الأموات،
وفي يدي قطعة من الحجر، باقية من المعركة.
أقاوم ألم قدميَّ المتورمتين.
انتظرت... على صفيح ساخن. أنا منتظر...
وها هو مدرس اللغة العربية قادم من بعيد،
يتراقص بين مدرس الرياضة ومدرس العلوم.
انتصبت واقفًا، وأنا أقترب منه لحظةً بلحظة.
وحين جاءت عيني في عينه، جُنّ جنوني.
انطلقت قطعة الحجر من كفِّي الصغيرة،
في سرعة الرصاصة،
مصوّبة إلى عينيه.
وهناك، ضلّت الطريق إلى جبينه،
لتفصل الجلد عن الجلد،
وتترك سيلًا من الدماء ملأ وجهه.
هو يضع كفيه على عينيه،
ويسقط على الأرض، في بحرٍ من الإغماء.
وقبل أن أفكر ماذا أفعل،
كان تفكير أقدامي الصغيرة أسرع من تفكير عقلي،
وهي تخطف جسدي،
وتطير به من على وجه الأرض.
ووراءها أقدام المدرسين،
ووراء أقدام المدرسين، أقدام الفراش،
ووراء أقدام الفراش...
أقدام ناهد، وهي تصرخ لي بأعلى صوتها، وتقول:
"اجري يا واد!
هــايلحقوك يا واد
اجري يا واد
هيموتك يا واد..."