كشة (1) لم يمت: الوعي الماركسي في وجه الثورة المضادة
عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 7 / 7 - 08:16
مثل عبد السلام كشة مزيجًا نادرًا من الوضوح السياسي والتجسّد العملي للفعل الثوري. كان حضوره في الميدان، كما استشهاده، استحالةً أخلاقية على القبول بنصف الحقيقة ونصف الدولة ونصف الانحياز. منذ وقت مبكر، انخرط عبد السلام في الصراع لا كغاضب عابر، بل كابن شرعي لوعي طبقي يتشكّل من القهر. لم يقف ضد نظام الإنقاذ لأنه جائع أو عاطل فقط، بل لأنه أدرك أن ما يجثم على صدر السودان ليس مجرد حكومة فاسدة، بل بنية طبقية كاملة تستمد وجودها من التبعية الاقتصادية والسياسية، ومن العنف المنظّم. لذلك، لم يكن اعتقاله المتكرر ولا فصله من جامعة الدلنج سوى تتويج موضوعي لانحيازه إلى صفّ الكادحين، ورفضه التكيّف مع منظومة كانت تطحن مستقبله كما تطحن حاضر كل من يشبهه. لقد طُرد من الجامعة ليس لأنه أخطأ، بل لأنه فكّر ونظّم وتمرّد.
ولأنه لم يكن مجرّد طالب جامعي، بل ابنٌ للتاريخ المهمّش، فقد حمل عبد السلام ذاكرة المناطق المنسية ووعي الهامش الذي يعرف أن الخراب ليس استثناءً بل قاعدة. ومن جامعة الدلنج، من أرضٍ تعرف جيدًا كيف يُبنى المركز على حساب الأطراف، وكيف تُفصَّل الدولة على مقاس النهب والتمييز والولاء. تمرده المبكر لم يكن نزقًا، بل ممارسة واعية ضد نظام تعليمي يعيد إنتاج الطبقية: فيه يُفصل الطلاب المقاومون ويُكافأ الموالون، وتُطرد الأسئلة كما يُطرد أصحابها. وهذا بالضبط ما فهمه ماركس حين قال إن الوجود الاجتماعي يحدّد الوعي. عبد السلام لم يولد مثقفًا، بل صاغه القمع.
وفي الخرطوم، انخرط في لجان المقاومة لا ليحتمي، بل ليصنع من الشارع وعيًا. لم يكن منظّرًا من برج عاجي، بل ثائرًا يشتق المفاهيم من الميدان. ولهذا، حين قال إن الثورة "ثورة تغيير وعي، بتاع مفاهيم، ثورة ضد أفكار"، لم يكن يرفض الغلاء، بل البنية الفكرية التي تنتج الجوع: الرأسمالية الطفيلية، الإسلام السياسي، العسكرة، التجهيل، وتطبيع الظلم. لقد تجاوز صراع الخبز إلى صراع ضد الثقافة المسيطرة، وتلك ذروة الوعي الطليعي، حيث يتحول الشاب المهمّش إلى مثقف عضوي كما تخيله غرامشي، لا مجرد ناشط لحظي.
في هذا السياق، لم تكن مواقفه ضد المساومة انفعالًا، بل تحليلًا ماديًا صارمًا. حين قال "النظام ما سقط، النظام قاعد... نخاف على ثورتنا من النخب"، لم يكن يتكهّن، بل يقرأ الصراع كما هو: نظام يُبدّل شكله ليحمي جوهره، ونخب تعتاش على الثورة كما تعتاش الطفيليات على الأجساد الحيّة. لذلك حين رفع البعض شعار "شراكة العسكر والمدنيين"، رد عبد السلام من الميدان: "لا تُوجد سلطة مدنية تُطلب من العسكر"، لأن السلطة في منطقه الثوري ليست مكرمة تُمنح، بل تُنتزع بالصراع، كما علّمنا لينين. ولهذا كان مزعجًا، ولهذا خافوه.
لم يكن عبد السلام فقط جريئًا في مواجهة الرصاص، بل كان أشدّ خطورة في وضوحه السياسي. ولذلك، في فجر المجزرة 3 يونيو 2019، سقط عبد السلام برصاص قوات الدعم السريع، ليس لأنه في المكان الخطأ، بل لأنه كان في الموقع الأكثر صدقًا. لم يحمل سلاحًا، بل وعيًا. لم يقاتل، بل واجه آلة القتل بجسد عارٍ وكلمات لاذعة. فصار جسده وثيقة إدانة، وصار استشهاده تجسيدًا لما قاله ماركس عن "دفع الإنسان ثمن حريته من جسده حين تعجز الكلمات".
لكن حتى جسده لم يكفِ النظام. فبعد المجزرة، اقتحموا منزل أسرته، أصابوا والده ووالدته وعددًا من الثوار، في محاولة لقتل الشهيد مرتين: مرة بالرصاص، ومرة بترهيب عائلته. لكن الأسرة لم تخضع. قالت والدته، آمنة محمد بحيري: "لن ننسى، ولن نتنازل عن حقنا في القصاص". وقال والده: "الدم قصاصه الدم"، في إشارة صريحة إلى لجنة نبيل أديب، التي تحوّلت إلى أداة لدفن الحقيقة باسم القانون.
لكن وعي الأسرة لم يكن محصورًا في الحزن أو طلب الثأر، بل كان امتدادًا واعيًا لخط عبد السلام ذاته. لم ترَ العائلة ما جرى باعتباره "جريمة معزولة"، بل جزءًا من منظومة متكاملة من العنف الطبقي المنظّم. لذلك، حين رفض والده التعامل مع لجنة نبيل أديب، لم يكن غاضبًا فقط، بل مدركًا أن تلك اللجنة لم تأتِ للعدالة، بل لإعادة تدوير الإفلات من العقاب. وقال بوضوح: "لا علاقة لي بلجنة تسهيل الإفلات من العقاب"، لتتحوّل عبارته إلى شعار ضد تمييع القصاص. أما والدته، آمنة محمد بحيري، فخرجت تُطالب صراحةً بـلجنة تحقيق دولية مستقلة، معتبرةً أن أي عدالة تأتي من داخل النظام الذي قتل ابنها ليست سوى مهزلة قانونية. بهذا، لم تكن الأسرة مجرد ضحية، بل أصبحت جزءًا من معسكر الوعي، تفضح وتُصعّد وتربط القتل ببنية الدولة، لا بأفراد فقط.
ما جرى بعد استشهاده لم يكن أقل قسوة. وُضعت قضيته في الأدراج، كما قضايا كل الشهداء الذين قرر النظام محوهم بالزمن، لا بالرصاص فقط. لكن عبد السلام لم يُمحَ، بل عاد بقوة في كل لحظة تواطؤ. صار اسمه اختبارًا سياسيًا وأخلاقيًا. كل من ساوم على دماء الشهداء، أو تحدّث عن "انتقال سلمي" مع القتلة، أو هلّل لاتفاقيات نزع السلاح من الثورة، إنما ارتطم بكلمات عبد السلام: "لا تفاوض، لا حوار، تنحّي من غير شروط". وبعد انقلاب 2021، حين ارتدى البعض أقنعة الواقعية، عادت شعارات كشة لا لتذكّر فحسب، بل لتدين. لأنه لم يكن يطلب نصرًا مجردًا، بل كان يطالب بشيء أوضح: الاقتلاع الكامل... أو لا معنى للثورة.
إن عبد السلام لم يكن فردًا، بل مشروعًا ثوريًا غير مكتمل. لقد حوّل سيرته إلى أسطورة حيّة، وأقواله إلى شعارات تفضح، وتحذيراته إلى مرايا تُحاسب. وكل من يضع صورته في الموكب ثم يفاوض من قتله، إنما يخونه. وكل من يكتفي برثائه دون أن يُنظم صفوفه، إنما يخذله. لقد قالها تروتسكي بوضوح: "الثورة لا تنتصر بالكلمات، بل بالوعي والتنظيم"، وعبد السلام كان واعيًا ومنظمًا، وعلينا نحن أن نُكمل التنظيم.
إن عشق عبد السلام ليس حالة وجدانية، بل موقف طبقي واضح. من أحبّه، فليحمل وعيه لا صورته. من عشقه، فليتمسّك براديكاليته لا برومانسيته. من يرفعه شهيدًا، فليكن مستعدًا لحمل مشروعه: لا مساومة، لا تفاوض، لا شراكة مع القتلة. الثورة لا تُورث، تُصنع كل يوم، وإلا فالشهداء ماتوا عبثًا.
"كل خطوة إلى الأمام من دون وعي طبقي، ليست إلا خطوة إلى الوراء متنكرة."
(1) عبد السلام كشّة (1996 – 2019)
هو شهيد ثورة ديسمبر المجيدة في السودان، أحد رموز الوعي الثوري في أوساط لجان المقاومة، وواحد من أبرز الشباب الذين مثّلوا الخط الراديكالي الماركسي داخل الحراك الجماهيري.
تمّ فصله من جامعة الدلنج بسبب نشاطه السياسي، وتعرّض للاعتقال أكثر من مرة، لكنه واصل نضاله في لجان المقاومة في العاصمة الخرطوم، حيث انخرط في العمل الشعبي والتنظيمي، معبّرًا عن رؤية ثورية كاملة لا تقبل المساومة أو التعايش مع رموز النظام القديم.
أستشهد عبد السلام في فجر 3 يونيو 2019، خلال مجزرة القيادة العامة.
من أقواله:
"لا حوار .. لا تفاوض .. تنحي من غير شروط"
"نخاف على ثورتنا من النخب"
"عش سريعا ومت شاباً واترك وراءك جثة وسيمة الملامح"
"عندي رسالة بسيطة بس داير أوصلها .. نحن في مرحلة ثورة تغيير بتاع وعي، بتاع مفاهيم، ثورة جيل، ثورة ضد أفكار، يعني ما هي ثورة عشان جوع ولا عشان غلاء أسعار ولا أي حاجة، نحن مُحتاجين نغير كتير في شكل الدولة السُودانية نتاج خراب حصل ليها خلال ٣٠ سنة."
"النظام ما سقط، النظام لسة موجود."
"هو في واحد عايز يعيش عمر طويل يعني."
"قبل ماتطلع الموكب جيب معاك ناس ماطلعو قبل كدة."
"الناس تحشد، الناس تحشد، الناس تحشد، والشوارع قدامنا ."
النضال مستمر،،