نقد جذري للذكاء الاصطناعي الرأسمالي وخطة عودة إلى الأرض


ليث الجادر
2025 / 7 / 6 - 14:40     

صدر مؤخرًا كتاب الاستاذ رزكار عقراوي «الذكاء الاصطناعي الرأسمالي: تحديات اليسار والبدائل الممكنة – التكنولوجيا في خدمة رأس المال أم أداة للتحرر؟» ليطرح أسئلة حيوية حول العلاقة المعقدة بين الذكاء الاصطناعي وهيمنة الرأسمالية، ويعيد فتح ملفّ الصراع الطبقي في عصر الرقمنة الشاملة. ينطلق الكتاب من تحليل واعٍ للفجوة الرقمية الهائلة التي تفصل اليسار، بأدواته التنظيمية والإعلامية، عن الشركات التكنولوجية العملاقة، مبينًا كيف تحوّلت الخوارزميات إلى أدوات لإعادة تشكيل الوعي الجماهيري، وضبط السلوك البشري، وإنتاج مزيد من التبعية للأسواق.

بينما يدعو الكتاب إلى مقاربة يسارية بديلة، تقوم على تطوير أدوات تقنية مستقلة وأمميات رقمية مفتوحة المصدر، فإنه يطرح في الوقت نفسه نقدًا صريحًا للأمية الرقمية داخل التنظيمات اليسارية التي ما زالت متأخرة تقنيًا.

غير أن هذا الطرح، رغم وجاهته وراهنيته، لا يخلو من إشكاليات جوهرية تستدعي التوقف والنقاش.

نقد الوهم التقني

إن الرهان على إنتاج ذكاء اصطناعي يساري مستقل قد يظلّ حبيس الطوباوية، لأن البنية التحتية الرقمية محكومة بالكامل لشركات ودول رأسمالية كبرى تمتلك قدرات لا يمكن مجاراتها بموارد يسارية مشتتة ومحدودة. كما أن الخوارزميات ليست حيادية، بل مصممة في الأصل لتخدم منطق السوق والربح، وأي استخدام لها يظلّ عرضة للاختراق والرقابة. وفكرة الأمميات الرقمية تصطدم بواقع الاحتكار التقني العابر للحدود: كيف ستُبنى تحالفات يسارية مؤثرة في فضاء تتحكم فيه الشركات العملاقة وأجهزة الأمن السيبراني؟ والأهم من ذلك أن التركيز المفرط على الحل الرقمي قد يدفع التنظيمات اليسارية إلى إهمال جبهة النضال الأهم: الأرض، أي الميدان الواقعي حيث تتم إعادة إنتاج الهيمنة الطبقية فعلًا في المصانع والأحياء الشعبية والجامعات والنقابات والأسواق والأراضي الزراعية.

إن معركة اليسار مع الرأسمالية لا تُحسم بشيفرات وخوارزميات فقط، بل في الصراع المادي الملموس الذي يعيد إنتاج شروط الوجود ويمنح الجماعة التنظيمية الثقة والشرعية والصلابة.

العودة إلى الأرض: بديل واقعي

البديل الأكثر واقعية اليوم هو العودة إلى الجذور: إحياء النضال الميداني الحميمي الذي سبق الطفرة الرقمية وظلّ لعقود مصدر القوة الأخلاقية والتنظيمية لليسار. هذا البديل يقوم على إعادة إحياء الحلقات القاعدية، أي اللقاءات الوجاهية والنقاشات الحية التي تربط المناضلين بجماهيرهم وجهًا لوجه، وإحياء أدوات الكتابة الورقية مثل النشرات والبيانات المطبوعة والكراسات التثقيفية، فهي تحرّرنا من هيمنة الرقابة الرقمية التي تستطيع حجب أو تشويه أي خطاب على الإنترنت.

كما يتطلب الأمر توظيفًا انتقائيًا للتكنولوجيا، باستخدام الأدوات الرقمية بقدر محسوب، دون الاتكال المطلق عليها، وبروح نقدية واعية لمخاطر الرقابة والسيطرة الخوارزمية. ويُعد تمكين الشباب ضروريًا ليكونوا جسرًا يربط بين العالمين الواقعي والرقمي، بحيث يكون دورهم الأساسي بناء حيوية تنظيمية ملموسة لا مجرّد وجود افتراضي هش.

الإنترنت العميق والإنترنت المظلم: فرص وتحديات

في زمن تهيمن فيه الشركات التكنولوجية الكبرى والدول الرأسمالية على تدفق المعرفة والوعي، يبرز سؤال مهم: هل أهمل اليسار إمكانيات الفضاءات غير المرئية من الشبكة؟

الإنترنت العميق: هو الجزء الهائل من الشبكة غير المفهرس من محركات البحث، يشمل قواعد بيانات بحثية، أرشيفات خاصة، وشبكات داخلية محمية. ليس بالضرورة سريًا أو غير قانوني.

الإنترنت المظلم: هو طبقة أصغر ضمن الإنترنت العميق، تتطلب أدوات خاصة (مثل TOR)، وتستخدم تقنيات تشفير لإخفاء الهوية، تُستخدم في حماية الخصوصية ونقل معلومات حساسة، لكن تستغل أحيانًا في أنشطة إجرامية.


اليسار في الغالب أهمل هذه الفضاءات بسبب فجوة رقمية، نقص الخبرات التقنية، مخاوف قانونية وأخلاقية، وعدم وجود رؤية استراتيجية واضحة.

يمكن توظيف الإنترنت العميق كأداة لحفظ الأرشيف وتنظيم بيانات بعيدة عن الرقابة، والمكتبات الرقمية المفتوحة، وشبكات التعاون المغلقة.

الإنترنت المظلم يمكن استخدامه تكتيكيًا لحماية هوية المناضلين وتمرير رسائل حساسة، شرط وجود وعي أمني وخبرة تقنية، مع تجنب الوقوع في فخ العزلة أو الاستغلال.

لكن الاعتماد الكامل على الإنترنت المظلم غير عملي لأنه بيئة معزولة وغير مؤهلة للتحشيد الشعبي.

خارطة طريق للتحرك: من النظري إلى العملي

1. الأرض أولًا: تأكيد أن الميدان الواقعي هو الأساس، والتكنولوجيا أداة خادمة لا بديل.


2. إحياء الحلقات الوجاهية: بناء مساحات آمنة حقيقية في الأحياء وأماكن العمل، توثيق الأفكار وطباعتها.


3. حذر رقمي دائم: استخدام قنوات مشفرة، التقليل من الاعتماد على منصات الشركات الكبرى، وانتاج محتوى رقمي هجين يترجم إلى فعل واقعي.


4. تمكين الشباب: تدريبهم على إدارة التوازن بين العالمين الواقعي والافتراضي، وإزالة العوائق التنظيمية.


5. نشر ثقافة نقدية نضالية: عبر ملفات وكتيبات ونقاشات داخلية مستمرة لتحديد حدود الاستخدام التقني وخطوطه الحمراء.

خاتمة: تحرر ينبت من التراب لا من الخوارزميات وحدها

مواجهة الرأسمالية الرقمية لا تعني الانعزال عن العصر، بل الانغراس الواعي في الواقع مع وعي نقدي صارم بالتكنولوجيا. لا يزال هناك فضاء واقعي وحياة ملموسة وحلقات صغيرة يمكن أن تكبر من حارات وأحياء ومصانع وحقول.

الذكاء الاصطناعي أداة جبارة، لكنها تبقى في يد من يملك الأرض ويعيد تشكيل الواقع. لذلك، الشعار الواقعي للمرحلة هو: التقدم إلى الأمام بعيون على الأرض وأقدام ثابتة في التراب.