لا جدال في اشتراكية الاتحاد السوفياتي..
ليث الجادر
2025 / 7 / 3 - 23:30
حين يُثار السؤال القديم الجديد: «هل كان الاتحاد السوفيتي اشتراكيًا حقًا؟» فإن الإجابة عليه لا تحتمل الانزلاق إلى الأحكام القطعية البسيطة، لأن أصل الإشكال يكمن في التعقيد النظري الذي لم يحسمه ماركس نفسه بوضوح. فقد اعتبر ماركس الاشتراكية مرحلة انتقالية موضوعية بين الرأسمالية والشيوعية، لكنه لم يقدّم أبدًا تصورًا مفصلاً لبنيتها أو شكلها المؤسساتي والإداري، بل اكتفى بطرح مبادئ عامة عن ضرورة تحرر الطبقة العاملة عبر ملكية وسائل الإنتاج جماعيًا.
إن هذا الغياب للتفاصيل يجعل من أي محاولة لإصدار حكم مطلق على «اشتراكية» تجربة بعينها مسألة إشكالية بحد ذاتها. ومع ذلك، يذهب بعض الماركسيين (خاصة الاتجاهات التروتسكية أو الماوية أو الفوضوية) إلى نزع صفة الاشتراكية عن الاتحاد السوفيتي كليًا، مستندين أساسًا إلى حجة هيمنة «طبقة بيروقراطية» على عملية التخطيط والإنتاج، مع غياب الديمقراطية العمالية المباشرة التي يُفترض أنها جوهر المشروع الاشتراكي.
غياب المعايير الدقيقة: هشاشة المنطلق النظري
يُعدّ هذا الموقف النقدي من الناحية النظرية موضع تساؤل. إذ كيف يمكن للماركسيين أن يشهروا معيارًا صارمًا للاشتراكية «الحقيقية» وهم أنفسهم يعتمدون على نظرية لم تُحدد سمات هذه المرحلة بدقة؟ إن مقولات ماركس الأساسية تركّز على الرأسمالية ونقدها، بينما تظل الاشتراكية مشروعًا مفتوحًا للتطبيق وفق شروط مادية وتاريخية متغيرة. لذا يصبح الاحتكام إلى معيار مثالي جامد للحكم على تجربة ضخمة مثل الاتحاد السوفيتي إسقاطًا تجريديًا لا يعترف بالظروف العينية ولا جدلية التحول التاريخي.
البيروقراطية: بين الممارسة والتنظير
إن النقد الأكثر شيوعًا يرى أن البيروقراطية السوفيتية كانت طبقة استغلالية جديدة تحل محل البرجوازية القديمة. لكن هذا توصيف قاصر إذا لم يُفكك ضمن السياق الفكري والهيكلي. وفق التصور الماركسي-اللينيني، لم تكن البيروقراطية جهازًا طفيليًا يُكرّس منطق السوق كما في الدولة الرأسمالية، بل كانت تمثّل قيادة تنظيمية «طليعية» للطبقة العاملة، تمارس وظيفة إدارة الاقتصاد والمجتمع في ظل التخطيط المركزي الواسع وغياب الأسواق الرأسمالية.
إن تحميل البيروقراطية كل التناقضات البنيوية لتجربة معقدة، من دون تحليل دينامياتها الداخلية وصلتها بالبنية الحزبية وأيديولوجيتها، يختزل الواقع في تشبيه سطحي. فالطليعة الثورية التي كانت تتحكم في الدولة لم تكن مالكة خاصة لوسائل الإنتاج، ولم تكن تنتج فائض قيمة لمراكمة رأس المال لصالحها كطبقة بورجوازية. صحيح أنها احتكرت صنع القرار وفشلت في ترسيخ ديمقراطية عمالية واسعة، لكنها في الوقت ذاته ألغت ركيزة الاستغلال التقليدي: الربحية الخاصة وتراكم رأس المال الفردي.
غياب الربحية وتراكم رأس المال: جوهر الفارق
ما ينساه كثير من النقاد هو أن علاقات الإنتاج في الاتحاد السوفيتي لم تكن تقوم على منطق تعظيم الربح الفردي ولا على الملكية الخاصة. فقد تم تأميم وسائل الإنتاج بشكل شبه كامل، وأدير الاقتصاد عبر خطط خمسية موجهة لتحقيق أهداف تنموية لا تستند إلى السوق أو المنافسة أو احتكار فائض القيمة لصالح رأسماليين أفراد. إن استحالة تراكم رأس المال الخاص هنا تعني عمليًا أن «القهر العمالي» لم يعد متمحورًا حول إنتاج قيمة مضافة لرأس المال كما هو الحال في الرأسمالية. كانت الحوافز في معظم الأحيان سياسية أو أيديولوجية أو بيروقراطية، لا اقتصادية خالصة.
لذلك فإن توصيف البيروقراطية بأنها «طبقة» تعيد إنتاج الاضطهاد الطبقي على النمط البرجوازي أمر غير دقيق. بل الأصح أنها شغلت وظيفة تاريخية معقّدة لإدارة اقتصاد ضخم مفتقر لشروط المنافسة وآليات السوق، وهو ما خلق عيوبًا إدارية كبيرة وعلاقات سلطوية صارمة، لكن ضمن منطق لا رأسمالي في جوهره.
الاشتراكية كمسعى مفتوح: تعقيد التجربة السوفيتية
لا يمكن إنكار أن النظام السوفيتي لم يحقق الشيوعية التي كان يطمح إليها نظريًا. لكنه في الوقت نفسه تجاوز الرأسمالية على المستوى البنيوي للملكية والعلاقات الإنتاجية. وهنا تكمن المفارقة: لقد مثّل الاتحاد السوفيتي حالة انتقالية، امتلكت سمات اشتراكية جوهرية من حيث إلغاء الملكية الخاصة والتخطيط المركزي، لكنها افتقدت آليات المشاركة العمالية الديمقراطية التي تُعتبر من وجهة نظر بعض التيارات شرطًا ضروريًا للاشتراكية «الحقيقية». وبهذا المعنى، فإن الجدل ليس بين اشتراكية ورأسمالية، بل بين أشكال متعددة من الاشتراكية نفسها: مركزية أو ديمقراطية، سلطوية أو مجالسية، انتقالية أو مكتملة.
نحو تقييم جدلي لا أخلاقي
يُظهر هذا الجدل كيف أن محاكمة تجربة الاتحاد السوفيتي على أساس إسقاطات أخلاقية أو معايير مثالية يفقد التحليل الماركسي جوهره المادي–الجدلي. فالسؤال الجوهري يجب أن يكون: هل ألغت التجربة أسس الملكية الخاصة وتراكم رأس المال الخاص؟ نعم. هل أدارت الطبقة العاملة الاقتصاد مباشرة؟ جزئيًا عبر حزبها الطليعي، وإن شاب ذلك هيمنة بيروقراطية ونواقص ديمقراطية حادة. هل نشأت طبقة تملك وسائل الإنتاج كأصل خاص وتعيش من فائض قيمة العمال؟ لا.
إذًا، من منظور البنية المادية للعلاقات الإنتاجية، كان الاتحاد السوفيتي يعبّر عن مرحلة اشتراكية انتقالية ذات سمات بيروقراطية سلطوية، لكنها ليست نظامًا رأسماليًا ولا يمكن وضعها في قالب «رأسمالية الدولة» إلا بحذر شديد إذا فُهم المصطلح في سياقه التاريخي الخاص.
خاتمة
إن محاولة نفي اشتراكية الاتحاد السوفيتي كليًا تتجاهل هشاشة المعايير النظرية لمفهوم الاشتراكية ذاته، وتتعامى عن تلاشي منطق الربحية الخاصة وتراكم رأس المال الذي يشكّل جوهر القهر العمالي في الرأسمالية. إن البيروقراطية السوفيتية – رغم كل عيوبها – لا يمكن مساواتها ببساطة مع بيروقراطية الرأسمالية الطفيلية. بل كانت جزءًا من بنية حزبية ماركسية–لينينية رأت نفسها ممثلًا للطبقة العاملة، حتى وإن انحرفت في التطبيق العملي عن الكثير من مبادئ الديمقراطية العمالية.
إن فهم التجربة السوفيتية يظل درسًا حيًا في ضرورة تجاوز الثنائيات التبسيطية: لا يمكن احتجازها في قالب اشتراكي مثالي غير موجود أصلاً، ولا إنزالها في خانة الرأسمالية التي ألغت شروطها الجوهرية. إنما تبقى نموذجًا انتقاليًا، مليئًا بالتناقضات، جديرًا بأن يُدرَس من موقع التاريخ المادي، لا من منصة الأخلاق المجردة او من منظار النصيه المعلبه