التغيير ((العراقي )).. من الأفتراضي الى الممكن ..ج2
ليث الجادر
2025 / 6 / 29 - 12:31
التاريخ، النخب، والمبادرة
التاريخ – شكلاً ومحتوىً – ليس مجرد سردٍ للأحداث، بل هو سلسلة مترابطة من الأحداث والمسبّبات. وما «شكله» الظاهر إلا محصّلة نشاطات مارستها النخب عبر الزمن، بوصفها استجابات متراكمة لانعكاسات النشاط الإنتاجي على الواقع الاجتماعي والسياسي.
إن شكل التاريخ يأخذ بُعدين متداخلين: سردية الزمن، وهي الخيط الذي يصل الأحداث ببعضها في تتابعٍ يحفظ المعنى ويصنع «الاستمرارية»؛ ومفاصل التوقيتات، وهي لحظات التحوّل الكبرى التي تهزّ البُنى القائمة، فتُعيد إنتاجها أو تقطع استمراريتها لتصنع قطيعةً أو قفزةً نوعية.
كل مفصل تاريخي جوهري يسبقه أو يرافقه تغيّرٌ في البنية الإنتاجية: أزمة فائض إنتاج، أو تحوّل في أنماط العمل أو الملكية، أو اكتشاف تقني يفتح تناقضات جديدة. هذه الأزمات تولّد شرطًا موضوعيًا لا يمكن تجاوزه إلا بإعادة ترتيب البُنى الفوقية. وهنا يظهر دور النخب والجماهير في هذا التفاعل الجدلي: تتحرّك النخب بوصفها أداة لترجمة التناقضات الكامنة في الواقع المادي إلى وعيٍ مُنظّم أو مشروعٍ تغييري، بينما الجماهير هي الكتلة الحرجة التي تحمل هذا المشروع وتوفّر الطاقة الاجتماعية لتحويله إلى واقع، وتبقى البُنية الإنتاجية هي الشرط الحاسم الذي يفرز الأزمة ويوجّه مسار التحوّل.
النخب ليست كيانات معزولة، بل هي بُؤَر تتشكّل من تراكمية انعكاس البُنى التحتية صعودًا إلى أقصاها داخل البُنى الفوقية. وعلى مدى شدّة هذا الصعود وامتداده، تتخلّق بنية النخبة: فقد تكون فكرية تنظّر وتعيد صياغة الرؤية للعالم، أو ثقافية تعبّر وتؤدلج وتخلق الهوية الرمزية، أو سياسية تنظّم الفعل وتحوّله إلى سلطة. وكلما ازدادت التناقضات عمقًا، ازداد الضغط لإنتاج نخبةٍ أكثر قدرةً على التنظيم والفعل. أمّا إذا انقطعت النخبة عن أصلها التحتي، تحوّلت إلى نخبة طفيلية أو بيروقراطية، تفقد مبرّر وجودها وتصبح حارسًا لتوازنٍ لم يعد قائمًا.
ومع ذلك، فإن اكتمال سيرورة النخبة لا يتحقّق بمجرد تراكم التناقضات أو نضوج الوعي، بل يحتاج إلى المبادرة بوصفها الفعل المحوري الذي يحرّك الإمكانات الكامنة. فالمبادرة تعني أن يتقدّم فردٌ أو جماعةٌ صغيرة من قلب النخبة صوب التنظيم العملي، فيعيد تجميع الكتلة المبعثرة اجتماعيًا في إطارٍ منظّمٍ وفاعل. وبدون هذه المبادرة يبقى التراكم الفكري أو الرمزي معلقًا وقد ينحلّ أو يُحتوى أو يتحوّل إلى زينةٍ بلا أثر.
تجربة نيلسون مانديلا مثالٌ حيّ لتكامل هذه العناصر. جنوب أفريقيا في القرن العشرين كانت نموذجًا صارخًا لاقتصاد رأسمالي–استيطاني قائم على التمييز العنصري والاستغلال الطبقي. خلق نظام الأبارتهايد تناقضًا اجتماعيًا عنيفًا: بنية إنتاجية زراعية–معدنية تحتاج اليد العاملة السوداء الرخيصة، لكنها تحرم الأغلبية من أي حقوق سياسية أو إنسانية.
من داخل هذا الواقع تولّدت نخبٌ فكرية وسياسية وثقافية: المؤتمر الوطني الأفريقي، مثقفون ومفكرون، شخصيات قانونية وأكاديمية. جسّد مانديلا مع رفاقه نخبةً ربطت التحليل السياسي ببناء تنظيم جماهيري، قادرٍ على تجاوز حدود الاحتجاج الأخلاقي إلى الفعل المنظّم.
كان ملايين السود والعاملين والكادحين هم الكتلة الحرجة التي حملت هذا المشروع. من دونهم لبقيت أفكار التحرّر دعوةً أخلاقية معزولة. وفي لحظات الحسم، تحوّلت المبادرة إلى نضال طويل: الإضرابات، العصيان المدني، الكفاح المسلّح في بعض مراحله، ثم المفاوضات التاريخية. هكذا جاء المفصل التاريخي: انهيار الأبارتهايد وإعادة إنتاج بنية السلطة لتستوعب الأغلبية المُهمشة، فصارت تجربة مانديلا رمزًا عالميًا لقدرة المبادرة على تحويل التراكم إلى لحظةٍ مفصلية تُعيد كتابة السردية.
إن التاريخ، في جوهره، ليس مجرّد حشدٍ من الوقائع، بل سيرورة جدلية يتداخل فيها التناقض المادي مع وعي النخب وحركة الجماهير، وتُحسم لحظاته الفاصلة بفعل المبادرة التي تحوّل التراكم إلى تحوّلٍ فعلي. لقد أظهرت تجربة مانديلا كيف تتفاعل أزمةٌ في البنية الإنتاجية مع نخبةٍ واعيةٍ قادرةٍ على التنظيم، وجماهيرٍ تحمل طاقة التغيير، لتأتي المبادرة فتربط الإمكان بالفعل وتصنع المفصل التاريخي الذي يعيد تشكيل سردية الزمن كلها. وفي العراق اليوم، يختزن الواقع كل عناصر هذه السيرورة: بنية إنتاجية مأزومة، نخبٌ متفرّقة بين فكرٍ معزول أو سياسةٍ مستهلكة، وجماهير مكدّسة تحت ركام الأزمات من دون إطارٍ جامع. إن اكتمال هذا التناقض لا يكفي وحده، بل يظلّ معطّلًا ما لم يولّد مبادرة حقيقية تنظّم الكتلة المبعثرة وتفتح أفق القطيعة مع البُنى الميتة. وبهذا، فإن أي مشروع يقرأ حركة التاريخ من جديد سيبقى رهينًا لجرأة من يلتقط لحظة التحوّل ويصوغها تنظيمًا فعّالًا، فتاريخ العراق القادم، مثل كل تاريخ، لن يُكتب إلا بيد من يفهم أن التغيير لا يُستعار ولا يُؤجَّل ولا يُروى كحكايةٍ بعيدة، بل يُنتَزَع من قلب الأزمة، ليكون سرديةً حيّةً لا تزّين الماضي بل تخلق حاضر افضل